تدلّ المواقف والتطورات الجارية، انّ الاستحقاق الرئاسي وصل إلى واقع مفاده أن لا وجود لحل في الأفق نتيجة عدم تدخّل الخارج كالعادة لفرض رئيس للجمهورية على اللبنانيين، كما أن ليس هناك من وصي على لبنان مثلما كان يحصل إبّان الوجود السوري فيه، بحيث كان الجميع يتفقون بسرعة البرق وبلا أي نقاش.
اما وقد تُرك للبنانيين ان يتفقوا على رئيس للجمهورية، فإذا بهم يتناحرون ويتخاصمون ويتآمرون بعضهم على بعض نتيجة تعدّد الأجندات والروابط السياسية وكثافة المصالح، وكأنّ لبنان هو قارة في حدّ ذاتها. ولعلّ الملفت في هذا الامر، هو انّ الجميع يفتقدون إلى المقاربة الموضوعية والواقعية للاستحقاق الرئاسي، متجاهلين عوامل عدة من شأنها التأثير بدرجة أساسية على هذا الاستحقاق، ومعتبرين انّهم يمكنهم الإتيان برئيس كما يشتهون، او حتى فرض معادلة جديدة تعاكس المعيارين اللذين يتجسّدان في قوة الدفع الخارجية وموقف «حزب الله».
فهذان المعياران هما الوحيدان اللذان يتحكمان بالاستحقاق الرئاسي، وما المعايير الأخرى سوى تجميل وتزيين لهذا الاستحقاق، كالميثاقية المسيحية والصورة الميثاقية او العبرة السيادية للرئيس او الطابع التوافقي له، او الفكر الاقتصادي الذي يعتنقه.
وعندما تُناقَش هذه المسلمات مع عدد من النواب تراهم يصدّقون انّ لبنان يعيش في لعبة ديموقراطية، وانّ حركة البعض المكوكية بين المرجعيات وغيرها، ذات الطابع الوساطي، يمكنها ان تقفز فوق هذه المعايير. وعلى سبيل المثال، إذا راقب البعض حركة النائب غسان سكاف يمكن ان يعلّق عليها بـ»المشكورة»، وكأنّ نتيجة اتصالاته يمكنها ان تفرج عن الاستحقاق الرئاسي، وأن تأتي برئيس. وإذا استعرض البعض الآخر حركة رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل ضمن تكتله النيابي وخارجه، وسعيه إلى استنباط اسم، لا يمكن لهذا البعض سوى التساؤل كيف انّ لهذا الرجُل ان يقوم بهذه الحركة، وهو كان على امتداد 17 عاماً ركناً اساسياً في كواليس انتاج السلطة، من رئاسة جمهورية إلى الحكومات إلى التعيينات؟ ولا ينسى البعض ما يقوم به «التغييريون» اليوم، وكأننا بهم في فوج كشافة وتنازع على قيادة هذا الفوج الذي يقيم في مخيم في اعالي الجبال.
هذا هو واقع ما يحدث حالياً. إلّا انّ المعيارين السالف ذكرهما، أي قوة الدفع الخارجية وموقف «حزب الله» اللذين يشكّلان القوة الحقيقية التي من شأنها إنجاز الاستحقاق الرئاسي، لا بدّ ان تتبلور حركتهما بعد انتهاء الافرازات الداخلية العقيمة، وقد تتجلّى بالآتي:
اولاً- لقد دخل لبنان في الشهرين الاخيرين من الفراغ على مستوى رئاسة الجمهورية، وهذا ما ينتجه التقاطع بين الإرادة الخارجية وموقف «حزب الله» على انتخاب رئيس جمهورية. وقد شكّل موقف «الحزب» الداعي إلى التوافق على هذا الرئيس تسهيلاً للموقف الايجابي الخارجي، واعتباره انّ موقف الحزب هو تسهيل لإنجاز الاستحقاق وليس تعطيلاً له. وفي هذه الحال، لن يكون هناك أحد خاسراً في هذا الاستحقاق، طالما انّ «أولياء النعمة» الذين أعطوا البعض التمثيل النيابي، سواء عبر الـ ngo او عبر الدعم المباشر، يباركون الحل، فتكون النتيجة وفق القول الفرنسي الشهير»Tout le monde a gagné»، أي رابح ـ رابح.
ثانياً- انّ انتقال السفيرة الاميركية دوروثي شيا إلى منصبها الجديد لن يحصل إلاّ بعد إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني، لارتباطه المستقبلي بما أُنجز خلال «عهدها» من ترسيم حدود بحرية مع اسرائيل، ولما لرئيس الجمهورية العتيد من دور في استكمال ما تمّ إنجازه حتى الآن على هذا المستوى.
ثالثاً- انّ المطلعين على حقيقة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وايران يقولون انّ هناك انفراجاً حقيقياً يُسجّل في هذه العلاقات، مبنياً على حسن نيات صادقة بين الطرفين، وهذا ما عكسه وزير الخارجية الايراني امير حسين عبد اللهيان خلال زيارته الاخيرة للبنان.
رابعاً- الجدير ذكره وله تأثيرعلى الاستحقاق الرئاسي، هو التقدّم في العلاقة السعودية ـ السورية على نحو غير مسبوق منذ العام 2011، بحيث يمكن لهذه العلاقة ان تتطور لتصبح شبيهة بالعلاقات السورية ـ الإماراتية.
خامساً- لا شك في انّ الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والمملكة العربية السعودية لم تضع حتى الآن أي «فيتو» على أي مرشح لرئاسة الجمهورية اللبنانية، كما انّ هذه الدول لم تحدّد أي معيار من شأنه استثناء أي مرشح، ما يفيد انّ المجتمع الدولي منفتح على الحلول، ومن ضمن مسلّماته ان يكون الرئيس اللبناني الجديد قادراً على محاورة «حزب الله»، لا ان يكون مرفوضاً لديه.
سادساً- انّ التحركات الشعبية بكل تجلّياتها على الارض خلال الايام المنصرمة، وخصوصاً في ما يتعلق بقضية انفجار مرفأ بيروت، تنمّ عن انّ هناك من اطلق شرارتها، إذ انّ هذه التحركات بهذا الحجم لا يمكن ان تحصل من دون دفع حزبي، ما يعني انّ «القوات اللبنانية» ومن معها، تَستَشِمّ حلاً يلوح في الأفق، ما جعلها تستغل قضية المرفأ لترفع الصوت وتُسمِع الخارج وتستدرجه إلى اتخاذ موقف، وإيقاف أي تسوية تُطبخ في الكواليس. فالعودة إلى تحركات اهالي ضحايا مرفأ بيروت السابقة تؤدي تلقائياً إلى استنتاج انّ هناك ثمة شيئاً قد تغيّر لجهة الحجم والدفع.
وإزاء ما تقدّم، يُسجّل المتابعون للاستحقاق الرئاسي في الآونة الاخيرة وحالياً، همساً، عمّا مفاده الذهاب إلى انتخاب رئيس جمهورية بدفع من «الثنائي الشيعي»، بحيث يتأمّن 70 صوتاً لرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، وهو ما يمكن الوصول اليه حسابياً نتيجة علاقات الرجل السياسية، بحيث لا يشكّل وصوله استفزازاً لأحد إلّا لـ»التيار الوطني الحر» و «القوات اللبنانية»، اللذين يسعيان دائماً للمحافظة على مفتاح الباب المسيحي والغاء بقية المكونات. الّا انّ هذا الامر لم يعد يصح، خصوصاً بعد النتائج الكارثية التي تسببت بها التسوية الرئاسية الشهيرة عام 2016. وبالتالي لم يعد الهمّ المسيحي أولوية على ما عداه، سواء عند الخارج خصوصاً وعند الفاتيكان تحديداً، إذ انّ الوضع الاقتصادي للبنانيين بات يتفوق على ما عداه، وانّ الميثاقية ليست لدى البعض سوى «حصان طروادة» للاستئثار والتحكّم بالرئيس المقبل.