Site icon IMLebanon

مبادرة «الاعتدال» الرئاسية: «فحص» اقليمي لصدقية النوايا المحلية

 

أطنب نائب الضنية جهاد الصمد خلال مناقشات الموازنة في مديح المقاومة في غزة ولبنان، من دون أن ينعكس ذلك مؤازرة جماهيرية. وحال الصمد في الضنية من حال النائب فيصل كرامي في طرابلس. في المدينة التي عرفت بتاريخها التضامنيّ مع قضايا العرب، لم يتردّد أيّ صدى شعبي لما تفوّه به كرامي من على منبر المجلس. والأمر نفسه ينطبق على الجماعة الإسلامية التي تكاد تكون الطرف السياسي الوحيد القادر على عقد تفاهمات سياسية وانتخابية مع كل الأفرقاء من دون استثناء، فيما لم تظهر بعد أكثر من أربعة أشهر على «طوفان الأقصى»، ورغم انخراط جناحها العسكريّ (قوات الفجر) فيها، أيّ ترجمة لتوسعها الشعبيّ المفترض.إذا كان دور السياسيين والأحزاب ضرورياً في التعبئة والتحشيد والتنظيم، فإن حرباً كالتي يتعرّض لها قطاع غزة، لا تحتاج إلى شيء من هذا. رغم ذلك، لم تشهد بيروت وطرابلس وصيدا وغيرها ما شهدته لندن وروما وبروكسل ومدريد وغيرها.

التضامن «عن بعد» هو ما يَسِم البيئة السنية خصوصاً، ليس فقط في القضايا العروبية أو القومية أو الإسلامية، بل وحتى في القضايا المحلية كما اتضح في الزيارة الأخيرة للرئيس سعد الحريري لبيروت. وهو «مزاج عام» يوصَّف بتسميات مختلفة، لعل أبرزها الفراغ الحريري الذي لا يوجد من يملؤه.

بعدما تجنّب عناء خوض الانتخابات، قال محيطون بالرئيس نجيب ميقاتي إنه قادر على «جمع» من يريد من النواب بوسائله الترغيبية المختلفة، قبل أن يتضح أنه لا يريد تحميل نفسه عناء ذلك أيضاً. وفيما مُنيت بالفشل محاولات سمير جعجع لملء الفراغ، عاقب الناخبون من انقلبوا على الحريري، كخالد ضاهر ومصطفى علوش وفؤاد السنيورة. بهاء الحريري نفسه، بكل الإرث الحريري، اختفى سريعاً كما ظهر. واقتنع فؤاد مخزومي أخيراً بأن المقعد النيابي لا يحتاج إلى كل ذلك التهريج والطبل والزمر. أما خصوم المستقبل التاريخيون في المناطق، فأقصى طموحاتهم مقعد نيابي. وما من شك في أن هذا المزاج المحلّي تأثّر بالقرار الإقليميّ، إذ لم يتحرك أحد – وخصوصاً التركي أو القطريّ أو الإماراتيّ – لملء الفراغ السعوديّ.

كل ما سبق يزيد من أهمية الحراك الأخير لـ«تكتل الاعتدال» النيابي الذي يكاد يكون الممثل الأبرز لهذه البيئة، أو قل الأول بين متساوين. وسواء قررت «الخماسية» أن تكون عودتها إلى المسار اللبناني الرئاسي عبر المبادرة الأخيرة التي طرحها التكتل، أو كانت هذه المبادرة عفوية فعلاً كما لا ينفك المعنيون بها عن التأكيد، إلا أن هذا الحراك يتقاطع، يوماً بعد آخر، مع المسار القطري، ومع الحوار بين الرئيس نبيه بري والنائب جبران باسيل. و«التشبيك» بين هذه المكونات الثلاثة، إضافة إلى النائب السابق وليد جنبلاط، يعطي دفعاً كبيراً لأيّ طرح، بمعزل عن خواتيمه.

في خروج عن سياسة «النأي بالنفس» التي تنتهجها غالبية أفرقاء الطائفة السنية، نجح «الاعتدال»، حتى اليوم، في ثلاثة أمور:

أولاً، وضعُ أفق مستقبلي عملي لحوار بري – باسيل مع ضم مكوّنات أساسية إليه، ووضع ترجمة فورية للمساعي القطرية في حال كان القطريون جديّين في الانتقال من الأفكار إلى الأفعال.

ثانياً، توزيع السلالم لكل من تسلّقوا أشجار التصعيد رافضين مبدأ الحوار للنزول إلى التسويات. وفي مقدم هؤلاء سمير جعجع الذي يرى الحوار الإيراني – السعودي يتعمّق، ويلمس الانكفاء السعودي عن معارك استنزافية لا لزوم لها بالنيابة عن الأميركي أو غيره، فيما لا يثق جعجع نفسه بأن صلاته مع السعودية تتصل فعلاً بمركز صناعة القرار، ولا تنشغل بمصالحها الخاصة مع بعض السياسيين الفرنسيين.

ثالثاً، تقدم فريق من الطائفة السنية للمرة الأولى منذ الانكفاء الحريري لأداء دور إيجابي. وفي ظل التموضعات السياسية، تبدو هذه الكتلة اليوم خارج التصنيفات وقادرة على التواصل السياسي والتوصل إلى تفاهمات أولية، من دون أن تثير حساسيات. وحتى الآن، التقى «التكتل» بمعظم الأفرقاء السياسيين والروحيين والديبلوماسيين، وينتظر موعدين أخيرين، الأسبوع المقبل، مع كتلة الوفاء للمقاومة والملحقة السياسية في السفارة الأميركية.

يتضح من النقاش مع أعضاء في «الاعتدال» أن ما يفعلونه ليس بعيداً عن مساعي «الخماسية»، وبتنسيق مع الرئيس بري الذي يقولون إن في الإمكان ترغيبه عبر هندسات سياسية، لكن لا يمكن ترهيبه. وفي بكركي، التي زارها «التكتل» أمس، بدا واضحاً أن البطريرك بشارة الراعي لا يرى في الأفق مساراً آخر غير مسارهم. أما في معراب، فقد بدا جعجع مختلفاً تماماً لجهة الترحيب بالحوار من دون شروط مسبقة. وكل هذا يدفع مطّلعين إلى القول إن ثمة «وحياً» ما يشجع على الترحيب، لكن لا يمكن تقدير أين أو كيف ستتم العرقلة إذا تبيّن أن وقت انتخاب الرئيس لم يحن بعد.

مطّلعون عن قرب يرجّحون أن ثمة «وحياً» ما يشجع على الترحيب بمبادرة التكتل

 

بعد الاجتماع مع كتلة الوفاء للمقاومة، سيدعو «التكتل» إلى جلسة نقاش من دون شروط مسبقة، يتم الاتفاق على مكان انعقادها وعدد المشاركين فيها وكيفية إدارتها. وإذا كان النقاش سيتطرق إلى المرشحين ليحاول حصرهم باثنين أو ثلاثة، إلا أن الهدف الأساس هو الاتفاق على آلية الانتخاب وليس اسم المرشح، وانتزاع التزام من أكبر عدد ممكن من النواب بتأمين النصاب، خصوصاً بعدما أبدى بري استعداده للدعوة إلى عقد جلسات واحدة تلو أخرى حتى انتخاب رئيس.

بمعزل عن مصير المبادرة، فقد نجحت حتى اليوم في إنهاء التحفظ المسيحي (القواتي – الكتائبي – التغييري خصوصاً) على مبدأ الحوار أو النقاش، وقفزت فوق الشروط المتبادلة لجهة سحب ترشيح سليمان فرنجية وغيره. وإذا كان أصحابها هادئين جداً مقارنة بمن سبقهم من أصحاب المبادرات، فإن المشهد الأولي الحالي يوحي بقدرتهم على تحقيق خرق ما، مستفيدين بشكل رئيس من عدم وجود تعويل هائل على تحركهم، ومن عدم تموضعهم في لا اقليمياً ولا محلياً.

في اجتماعهم مع الحزب الاشتراكي أمس، بدا واضحاً أن تماهي نواب «الاعتدال» مع طروحات وليد جنبلاط كبير جداً، وأنهم قد يكونون الشريك الأساسي الذي يبحث عنه الأخير منذ أن باغته الحريري بخروجه غير المحسوب. وهم إذا ثبتوا مسارهم مع بري وجنبلاط وباسيل، سيكونون قادرين على التقدم خطوات، في ظل مرونة سياسية واضحة من الداخل والخارج. مرونة تسمح بأن يكون نجاح المبادرة نجاحاً للجميع، وفشلها إخفاقاً لمبادرة ثانوية لم يتبنّها أحد غير أصحابها. مع تقدير سياسيّ جدّي بأن المبادرة تشكّل اختباراً لمصداقية بعض السياسيين والدول الإقليمية. فبعد تبادل الكثير من الرسائل الإيجابية، ستسمح هذه المبادرة بتبيان كثير من الحقائق.