IMLebanon

“طفّوا النافورة”… خلص العهد

 

 

فتح الرئيس أدراج مكتبه في القصر واحداً واحداً، أخرج منها كل ما يخصه من أوراق وملفات وملاحظات كتبها بخط يده. فتش عن نسخة من كتابه «ما به أومن» ليحملها معه الى الرابية وتأكد أنه لم ينسَ شيئاً في الأدراج والخزائن، لم يشأ أن يولي هذه المهمة لأحد سواه حتى السيدة ناديا. تأكد من أن الشتول الخضراء على رفوف المكتبة خلفه مسقية جيداً وانصرف… مشاهد من وحي الخيال حاولنا عبرها رسم صورة للأسبوع الأخير من حياة الرئيس عون في قصر بعبدا.

 

ألقى نظرة أخيرة على المكتب الذي أمضى فيه ستة أيام من كل أسبوع على مدى ست سنوات. لم يتعلق عاطفياً بهذا المكتب، « لدي مكتب أفضل في البيت وأنا أشتاق الى الرابية أكثر»، قالها في مقابلته لتلفزيون المنار.

 

على هذا المكتب جلس صباح الأحد في الثلاثين من تشرين الأول ووقع مرسوم اعتبار الحكومة مستقيلة ليقطع الطريق على كل صوت يمكن أن يقول إنها حكومة مكتملة المواصفات ولا مستند رسمياً يثبت استقالتها. وعلى المكتب ذاته نص رسالة لمجلس النواب ليدعوه الى اتخاذ القرار المناسب لمنع الأمور من الانحراف الى ما ليس في مصلحة البلد، والى انتخاب رئيس او تأليف حكومة في اليومين المتبقيين للولاية. مستخدماً تعابير لها موقع خاص في قلبه: شرعية، شعبية، ميثاقية…

 

طوال فترة رئاسته كان الرئيس يجلس خلف مكتبه بدءاً من الساعة السابعة صباحاً ليتابع ملفاته الكثيرة ويتابع كل التفاصيل. ولا ينكر احد أن الرئيس ميشال عون رغم تقدّمه في السن كان نشيطاً جداً ولم يكن هناك «إضاعة للوقت في عهده»، على حد قوله. في الأسبوعين الأخيرين توزع نشاطه على محورين أساسيين: الأول، محور ترسيم الحدود البحرية وتوقيع رسالة التوافق على الاتفاق التاريخي بين لبنان وإسرائيل، وهو بلا شك إنجاز يحسب للعهد ويدخل لبنان نادي الدول النفطية ويضعه على سكة التعافي الاقتصادي والخروج من الأزمات.

 

أما الثاني فمحور منح الأوسمة لعدد من «الشخصيات» التي تمثل قيمة معنوية كبرى أسدت البلاد خدمات جلّى أو أدت أعمالاً ذات مستوى إنساني ومعنوي رفيع، وكانت مثالاً يحتذى به في الشجاعة والتضحية والعمل الإنساني وخدمة الوطن وذلك وفق الأصول المتعارف عليها في منح الأوسمة… انشغل الرئيس بتوزيع الأوسمة حتى اليوم الأخير من ولايته الذي أمضاه بعيداً عن قصر بعبدا. حصة الأسد لجماعة «التيار» وللدائرين في فلكه، مستحقّين وغير مستحقين، وكان آخر الأوسمة لكريمة الجنرال كلودين عون التي قلدها وسام الاستحقاق اللبناني المذهب، تقديراً للمنجزات التي حققتها الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية في خلال ستة أعوام…

 

«ركّ» الرئيس في الأسبوعين الأخيرين على توزيع الأوسمة رغم أنه لم يكن مكثراً فيها اثناء ولايته: الوزير إلياس أبو صعب، المستشار والوزير السابق سليم جريصاتي، السفير السوري علي عبد الكريم علي، القاضية غادة عون والإعلاميتان ماغي فرح وسكارليت حداد من الأسماء التي كرمها الرئيس ضمن لائحة طويلة من المكرمين. حتى أن بعض المغرضين ذهب الى القول أنه منح المخرج شربل خليل وساماً وسأله عن سمير صفير وأين أراضيه في هذه الأيام؟

 

لكن ما حكي عن كرم الرئيس في توزيع الأوسمة دحضه موقع «التيار» الذي نشر أرقام الأوسمة التي منحت في العهود السابقة، مؤكداً أن عون منح العدد الأقل من الأوسمة مقارنةً بنظرائه بعد اتفاق الطائف ولم تتعدّ 452، بينما وزّع الرئيس الياس الهراوي 835 وساماً، والرئيس إميل ‏لحود 1693 وساماً والرئيس ميشال سليمان 593 وساماً.

 

ليست الأرقام ما وضعت الرئيس في عين عاصفة الانتقادات فتوزيع الأوسمة هي من الصلاحيات اللصيقة بالرئيس وليس ثمة قانون يحدد عددها إنما المعايير التي اعتمدت في منح هذه الأوسمة، واندفاع الرئيس في تقديمها بشكل متسارع في آخر عهده دون العودة الى مجلس الأوسمة واتباع الآلية المعهودة، هو ما أثار موجة من الانتقادات والتساؤلات حول أحقية بعض الحاصلين على الأوسمة عن سواهم بنيل تقدير الدولة اللبنانية. وجاء منح السفير السوري الوسام الرئاسي ليذكي الانتقادات رغم أنه من المتعارف عليه بروتوكولياً أن يقلد رئيس الجمهورية كل رئيس بعثة دبلوماسية وساماً إثر انتهاء مهمته.

 

ورغم انهماكه بالنشاطين المذكورين، أنهى الرئيس وعلى غرار كل الرؤساء في آخر ولايتهم، توقيع كل المراسيم العالقة، منها مرسوم العفو الخاص أما مرسوم التجنيس الذي حكي كثيراً عنه، فقد وأده الثنائي مولوي / ميقاتي في مهده.

 

نجوم الأسبوع الأخير

 

الأيام الأخيرة لولاية الرئيس عون كانت حافلة باللقاءات التي شاء في كل منها التركيز على ما تم من إنجازات خلال العهد رغم الـ»ما خلّونا» مع التنويه بما تبقى على طريق الإنجاز. لقاءات دخل بعضها في صلب المعاناة اللبنانية وأخرى بقيت على الهامش في إطار بروتوكولي. هوكشتاين، دوروثي شيا، إلياس أبو صعب، الوفد القبرصي، سعادة الشامي كانوا نجوم اللقاءات الأخيرة سواء في قضية ترسيم الحدود أو التفاوض مع صندوق النقد الدولي. والى جانب هذه الاسماء برزت لقاءات أخرى للرئيس بقيت في الإطار الاجتماعي. في يومه الأخير في الرابية استقبل الامينة العامة للفرنكوفونية لويز موشيكيوابو وأعرب عن «سعادته لتدشين المركز الجديد للمقر الإقليمي في شارع المصارف، مؤكداً ان لبنان سوف يقدم كل التسهيلات اللازمة لتمكين المقر من لعب الدور المنوط به» (على أمل بالطبع ان يتم تأمين التيار الكهربائي للمقر).

 

وكانت للهيئة الوطنية لشؤون المرأة حصة في لقاءات الرئيس وأكد أمام سيداتها ورئيستها كلودين عون «أن الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ 32 سنة أوصلته الى ما هو عليه، وشدّد على أن الشعب اللبناني سُرق بجميع فئاته، وبعدما كانت العائلات المعوزة تشكل 25% باتت اليوم تشكل 75% من اللبنانيين»… واقع يعرفه اللبنانيون ويبكونه يومياً.

 

ومن نشاطات القصر في اسبوع الرئيس الأخير الاحتفال ببدء أعمال اللجان المنبثقة من «اكاديمية الانسان للتلاقي والحوار»، أعمال هي نتيجة ثمانية أشهر من التفكير والتخطيط والبحث والنقاش والتصميم حول الورقة المفاهيميّة التي وضعها الرئيس، والتي نالت موافقة الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة بـ165 صوتاً على 167 لإنشاء «أكاديميّة الإنسان للتلاقي والحوار» في لبنان، جاعلةً منه منصّة عالميّة حيث تلتقي جميع الإرادات الطيّبة في العالم لبناء، سويةً، ثقافة السلام والاحترام والوئام وحضارة المحبّة!!!

 

وجاء يوم الجمعة 28 ليحمل طابعاً إنسانياً وجدانياً حيث التقى الرئيس كبار موظفي القصر في لقاء وداعي.

 

«ما جانيش» نوم

 

ليلة السبت في 29 تشرين الأول لم يستطع الرئيس النوم، كانت أصوات المناصرين في الخيم المنصوبة قرب القصر واصوات أناشيدهم والأهازيج تصل إليه. ترك القصر ونزل بين ناس الخيم. تخلّى لأجلهم عن البروتوكول ولباسه الرسمي ليصير واحداً منهم. جال بينهم برفقة جبران مستعيداً بفرح مصحوب بنوستالجيا أيام بعبدا القديمة ووعدهم أن لقاءه بهم في الغد، أي الأحد الفائت، لن يكون وداعاً ومعهم سيكمل النضال لإنقاذ لبنان. وبعد أن ارتوى حباً ووفاء، عاد الى سريره يعدّ الساعات قبل أن يترك القصر والولاية التي كانت حافلة بصعاب ومعاكسات بلغت حد الكوارث والانهيارات…

 

يوم الأحد 30 تشرين صباحاً استيقظ الرئيس قبل عادته، هو الذي اعتاد الاستيقاظ في الخامسة والنصف كل صباح. تأكد من أن اغراضه الخاصة كلها قد نقلت الى الرابية ولم يبق في القصر سوى ثياب النوم التي ارتداها في الليلة الأخيرة وأدويته وعدة الحلاقة. لم يمارس التمارين الرياضية اليومية البسيطة التي اعتاد ممارستها، نزل باكراً الى الحديقة ليودع الأشجار التي يحب. فلطالما أحب الرئيس عون الطبيعة والزراعة والحياة البسيطة. ومن يعرفه يقول عنه إنه لا يحب حياة البذخ، حتى في قصر بعبدا أبقى على عاداته البسيطة لا سيما مع الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد: «طالتنا الظروف التي مرت بالبلد قالها في حديثه المتلفز، إلا أننا تمكنّا من التحمل والعيش بما يحق لنا من مخصصات شرعية».

 

 

دخل القصر، ألقى نظرة أخيرة على مكان لم يقدر له أن يكون كما حلم به. مكان عاش فيه ست سنوات مرت بسرعة، وفق قوله، لكنها كانت حافلة بالمشاكل السياسية والعائلية والصراعات الداخلية و»تشويه للصورة» هو أكثر ما أحزن الرئيس.

 

 

عند حوالى الساعة الحادية عشرة صافح كبار الموظفين والمستشارين رسمياً وأدت له كتيبة من الحرس الجمهوري التحية. لكن لا شك انه قام قبل ذلك بوداع كل العاملين في القصر. علاقته بهم تميزت باللطف والرفق، حسبما روى لنا البعض، وكأنما بحكم السن تخلى الرئيس الجدّ عن تلك النزعة العدائية التي رافقت شخصيته في بعض المراحل وبات أكثر ليونة بالتعامل مع من حوله. خرج بين صفين من الرماحة ووسط هتاف المناصرين و»وعونك جايي من الله»، ألقى أمام الحشود البرتقالية كلمة الوداع التي تأرجحت بين الصلابة والعاطفة. تلعثم أكثر من مرة وضاق به النفس من شدة الانفعال لكنه قال ما أراد قوله، لم يعدد منجزات ولم يعترف بأخطاء ولا ذكر كوارث وأزمات، ركز على العصي القضائية والمالية التي وضعت أمام دواليب العهد… وعلى أولئك المسجونين قهراً.

 

«إنتقل من الحجر الى البشر»، وعند الساعة الواحدة ظهراً عاد الى رابيته سالماً.

 

بين عون وسليمان

 

لا تتشابه بدايات عهود الرؤساء ولا نهاياتها، كل رئيس يزرع في القصر شيئاً من ذاته ويغادره ململماً ذكريات وعبَر نسجها في السنوات الست… حين دخل الرئيس ميشال سليمان الى القصر الجمهوري، وفق ما يرويه لـ»نداء الوطن» مستشاره بشارة خيرالله، وتجنباً للشائعات التي كانت تطلق على الرؤساء بانهم يحملون معهم مقتنيات من القصر حين يغادرونه، طلب إجراء جردة كاملة مفصّلة على كل مقتنيات القصر مع أرشيف ممكنن مصوّر ليؤكد يوم مغادرته انه ترك القصر كما وجده ويقطع الطريق على كل الشائعات التي تحيط بالرؤساء عند خروجهم. حرص الرئيس سليمان على إضافة محتويات جديدة الى القصر وترك جزءاً من الهدايا الخاصة التي تلقاها أثناء ولايته فيه. وكان أبرز هذه الهدايا طائرة هليكوبتر VIP تمّ تقديمها للرئيس كهدية شخصية من قبَل أمير قطر حينها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، لكن الرئيس تنازل عنها إلى قيادة الجيش. وكذلك ترك سليمان عدداً من الهدايا الصغيرة التي لا تزال موجودة في القصر الجمهوري وأغنى مكتبة القصر وكبّرها بعدد من الكتب. وبقي الأثر الأحب الى نفسه لوحة لإعلان بعبدا الذي اعتبره سليمان ابرز ما نتج عن هيئة الحوار الوطني عُلّقت في البهو الرئيسي للقصر. لكن اللوحة احترقت للأسف مع «حادثة» احتراق شجرة الميلاد التي حصلت في بداية عهد الرئيس عون. وككل الرؤساء عمل الرئيس سليمان على منح الأوسمة وفق معايير محددة ومنح أوسمة للصحافيين الذين عملوا في المجال لأكثر من خمسين سنة مثل أميل خوري وغيره، ومنح أوسمة لكبار من لبنان على غرار سعيد عقل وأمين معلوف وسلوى القطريب وغيرهم… وتطبيقاً للبروتوكول المعمول به بين رؤساء الدول منح الرئيس سليمان الأوسمة لكل رؤساء الدول الذين منحوه أوسمة وبلغ عددها السبعين.

 

 

وجه الخير… هوكشتاين

 

يشير خيرالله أن السيارة التي غادر بها الرئيس ميشال عون القصر الجمهوري وحيّا من نافذتها اليسرى حشود المناصرين البرتقاليين هي مرسيدس مصفحة، كانت في الواقع هدية شخصية قُدمت من قبل الأمير حمد بن خليفة ثاني الى «أخيه فخامة رئيس الجمهورية ميشال سليمان»، وقد قادها الأمير بنفسه يومها من مطار رفيق الحريري الى قصر بعبدا. لكن الرئيس سليمان اعتبرها هدية للقصر وتنازل عنها عند نهاية ولايته لصالح المديرية العامة لرئاسة الجمهورية لتكون بتصرف أي رئيس جمهورية يتبوّأ سدة الرئاسة.