جيد أن يأخذ المرء مسافة زمنية من حدث كبير قبل التعليق عليه، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالغرب الاستعماري والعنصري والإرهابي؟ لكن الأمر سيبقى في حدود ضبط الانفعالات لا أكثر. وكلما مرّ الوقت، بدت الصورة أكثر وضوحاً. برغم كل الدماء التي أسالها مجرمو باريس بحق صحافيين رائدين في مجال النقد من دون تحايل، ومهما بلغ الجدال مداه، حول ما قام به الرسامون من مسّ بما هو مقدس عند آخرين، فإن الجريمة ليس لها اسم آخر: إنها الجريمة.
وكما هو سائد في حالة الجرائم ذات الطابع السياسي، يلجأ الادعاء إلى تكثيف مواده الخاصة بمحفزات الجريمة، أو ما يُسمى دوافعَها. يكفي أن نتفرّج على النشاط المحموم لحفنة من المحققين في محكمة الحريري الدولية، لا يتوقف هؤلاء عن استخدام صبيتهم في بلادنا لأجل تهيئة المناخ لقرار إدانة يستند فقط إلى الاعتبار السياسي، ولو من دون أدلة. وفي السياق نفسه، إنّ من يريد مقاربة جريمة باريس، يمكنه كتابة سطر حاسم يدعو إلى معاقبة القتلة. لكنه يكون قاضياً فقط.
لسنا ملزمين بجلد للذات، فنحن نقاتل هذا الوحش
الذي يذبحنا بسكين صنعه الغرب بمالنا ثم صدّره لنا
لا يكون ممثلاً للعقل الأعلى للمجتمع الذي عليه البحث عن الخلفيات وعن الأسباب.
حسب الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، لا يبدو الشعب الفرنسي راضياً عن أداء حكومته على المستوى الداخلي والخارجي. وتشكّل العنصرية للأسف أهم تجليّات ردود الفعل الشعبيّة على هذا الإخفاق الفادح اقتصادياً واجتماعيّاً، فضلاً عن المغامرات الاستعماريّة التي منيت بفشل ذريع. سياسة فرنسا تلسعنا على شكل جرعات عنيفة من العنصرية. لكن ما برز حتى الآن من ردود الفعل تلك، يوحي بأننا أمام تعاسة في الفكر وفي السلوك وفي التدبير، ليس عند الأكثريّة الحاكمة حالياً في فرنسا فحسب، بل عند غالبية واضحة من النخب الفاعلة على الصعيد العام، ما يجعلنا نتوقّع الأسوأ، في الأيّام والأشهر المقبلة، لجهة العنف الأهلي الموجّه ضد العرب والمسلمين. عنف طالع من أعماق المجتمع الفرنسي الذي سحقته الأزمة، وعبأته التحريضات، فصار يعرف «المذنب» الذي ارتكب «مسّاً غير مقبول بجوهر الديموقراطية الفرنسية».
يمكننا نحن أهل لبنان العظيم، وأهل المشرق العربي الأعظم، أن نساعد في صياغة الخطاب الرسمي الفرنسي: «وحدة وطنية، عيش مشترك، لا تمييز بين الأديان والأعراق والألوان»… هل نواصل؟: «حروب الآخرين على بلادنا. هذه ليست القيم التي تربينا عليها».
… كل ذلك يمهّد لسياسة أخرى على أرض الواقع، بعضها معلن وبعضها مستتر. وحتى لا تبقى خدمتنا ناقصة، علينا مدّ الفرنسيين بالمرادف الفعلي للعناوين السابقة: «الأولوية لتثبيت الأمن، فرنسا أولاً، أغلقوا الأبواب أمام الهواء الأصفر الآتي من بعيد. هم شيء ونحن شيء آخر، لا يمكن خلط الأسود بالأبيض، لا يمكننا تجاهل فروقاتنا الثقافية والدينية. كيف نساوي بين متخلّف ومتمدن؟ أبناء الضواحي يهددون الأمن، وينتجون الفوضى والضجيج. أطردوا الغرباء واقفلوا الحدود». وقس على ذلك…
هذه هي الفرضية المنطقيّة التي ستتحكم خلال المرحلة المقبلة بالمشهد العام في فرنسا، وفي أوروبا الغارقة في أزماتها. سنشهد، آسفين، مرغمين، وعاجزين، موجة عنصرية تترجم التعبئة والحقن، والخوف الكامن في لاوعي «الرجل الأبيض». ملايين الرجال والنساء السمر البشرة، من فرنسيين أو مقيمين في فرنسا، سيخرجون صباح كل يوم، وحتى إشعار آخر، ليعتذروا من جارهم الأبيض: «نحن وأنتم ضحية الإرهاب».
نصيحة لهؤلاء، بمجرد أن تقول: «نحن وأنتم»، تكون قد اعترفت بأنك تعيش «ذميّاً» تحت ضغط تمييز عنصري مقزز.
لكن النصيحة الأفضل في هذه المحنة، تبقى للرجل الأبيض نفسه: الواقعية تقضي بأن تسمع الكلام الحقيقي الذي يلي سطر إدانة الجريمة. اسمع الرجل الأسمر يقول: أنت لم تعتذر عن جرائم ارتكبتها أباً عن جد منذ مئات السنين بحق بلدان وشعوب، وها أنت اليوم تحاول أن تنأى بنفسك، بينما تحشر كل أطرافك في بلاد الآخرين نهباً وتخريباً، لكنْ لكلّ شيء ثمن. ليس هو قدراً، ولا هو رد فعل عبثي، ولا هو فعل مرحب به، أو مصرح به أو مأذون به من قبل ضحاياك، لكنه فعل العاجز عن إيقافك، وردّك إلى صوابك، وإشعارك بأنك مستمر في ارتكاب الجريمة. وهو فعل له شكل المقاصة التي لا بد وأن تحصل، آخر كل نهار!
أما من جانبنا، فمسؤوليتنا ليست في جلد الذات. ليس واجبنا أن نتقدّم المعزين فقط، لأن واحداً من أبناء جلدتنا ارتكب هذا الفعل الشنيع. ولسنا مضطرين على الإطلاق، لأن نخرج على الشاشات، لنتلو فعل الندامة، لأن بيننا من يتبنى أفكاراً لا تمت إلى الحضارة ولا تحترم الإنسان. ثم لسنا ملزمين، تحت أي ظرف، بمدّ يد العون على طريقة ما فعله حكامنا بعد 11 أيلول، ولا أن نفتح بيوتنا كما فعلنا مع المحكمة الدولية باسم العدالة. ونحن لسنا ملزمين بشيء تجاه هذا الغرب الأخرق.
نحن أصلاً، نحن لا نقف مكتوفي الأيدي إزاء هذا النوع من المجرمين. ونحن أول من يدفع الثمن، والنساء منا، كما الشباب والكبار والأطفال الذين يذبحون يومياً على يد هذا العقل المتخلف. لكننا نُذبح بسكين صنعه الغرب الاستعماري، ونحن نُذبح تحت بصر وسمع هذا الغرب نفسه. والذين يرتكبون الجريمة بحقنا يومياً، هم عملاء هذا الغرب في بلادنا، وهم يسرحون ويمرحون ويتنقلون، ويحكمون برعاية هذا الغرب الاستعماري ودعمه.
هل لفرنسي أن يسأل نفسه عن الذي يحصل في فرنسا، ولا يسأل نفسه عن مسؤوليّة حكومته ورئيس جمهوريته… ومؤسساته عن شقاء جزء كبير من العالم؟ ما هذه الديموقراطية التي تلد وحشاً؟