IMLebanon

مبادئ الجمهورية قبل رئيسها

أن تتخاصم مع فريق سياسي كان يلبس بزّة عسكرية في بداية انطلاقة نضاله على قاعدة «أخوك مُكرَه لا بطل»، لهوَ أمر طبيعي، إذ كانت قد اندلعَت الحرب وقرَّر الفلسطيني أن يكون لبنان الوطن البديل، وأن يتمّ اللقاء للوعود والعهود كما فعل العماد ميشال عون قبل أن يصل إلى قصر بعبدا عام 1988 حيث وعد غريمَه السياسي الحالي بأنّه لن ينقضّ عليه، أملاً في وحدة القرار والخيار المسيحي بحكم الحرب وانحسار حضور المسيحيين في المنطقة المسمّاة «الشرقية»، ولكن لم تكن مساحة ذاك الاتّفاق حينذاك تُتيح الحديث عن الجمهورية.

اليوم وبعدما رُمّمَت أواصر الدولة بصورة عرجاء عام 1990 على حساب حرّية المسيحيين وتقدّمِهم وازدهارهم وعيشِهم المشترك مع إخوانهم المسلمين، وأيضاً على حساب الميثاق والوحدة الوطنية، فأكلَ الطائف من صحنِهم كقوّة سياسية واعتُدِيَ على جغرافيتهم وديموغرافيتهم وهُمِّشوا في مناصب وظيفية إدارية وعسكرية وانحسرَت كثيراً البُقع التي يحضرون فيها، حيث بات ترميم أوضاعهم الداخلية ومحاولة استعادة بعض ممّا أكلَ عليه الدهر وشرب أمراً ضرورياً،

فجاء اللقاء المنشود دائماً من معظم المسيحيين واللبنانيين المؤمنين بوجوب الإرتقاء في تعاطي الأطراف السياسية بعضُها مع بعض إلى ما هو أعلى من الاختلاف السياسي، فكم بالحَري إذا كان هذا اللقاء يهدف إلى تخَطي ذيول الماضي والاصطدامات وتنحيف الاختلافات لتصبحَ شيئاً من التباينات التي تتّفق على مبادئ قيام الجمهورية وتتباين حول طرُق إدارتها.

وفجأةً قرّر العماد عون أن ينفتح على الجميع متناسياً الاختلافات والاصطدامات التي باتت غيرَ مرئية ومسموعة ولا يضجّ بها الإعلام ويُنذر فيها الكلام القبيح، وتقلّ فيها سيناريوهات التضليل، لا بل تعيش وكأنّك في زمن المحبّة السياسية.

أمّا المشهد المتكرر للعام 1988 فهو رغبة عون في التواصل مع «الحكيم» لأنّه يطمح للوصول إلى رئاسة الجمهورية، وهذا حقّ سياسي وديموقراطي يملك الجنرال كلّ مقوّماته للسعي للوصول إليه، فيما يكرّر «الحكيم» أهدافَه من اللقاء المتكرّر بعد 27 عاماً ولكن بإطار أوسَع هذه المرّة، إذ إنّ اللقاء عام 1988 كان بهدف توَلّي عون رئاسة الحكومة أمّا اليوم فرئاسة الجمهورية، فيما هدف الحكيم آنذاك كان الحفاظ على وحدة المسيحيين وصون قرارهم السياسي وخيارهم العسكري منعاً للاصطدام، بينما يسعى اليوم وبعد ترميم الجمهورية عام 1990 على مداميك ضعيفة إلى إعادة صوغ بناء الدولة على مداميك قويّة. ومرّةً جديدة تُظهر التجربة السياسية للرجُلين أنّهما لم يتغيّرا كثيراً في ما ينشدانه من أهداف في السياسية مهما اختلفَت ممارسة كلٍّ منهما.

فالمطلوب أن يكون لدينا رئيس قوي يُعيد إلى الرئاسة ما حاولَ الرئيس الأوّل بعد الوصاية السورية البناء عليه وفق ما ورد في إعلان بعبدا، فيؤكّد

عون الحفاظ على سيادة الدولة ووحدة قرارها السياسي وعدم منافسة أيّ طرف داخلي أو خارجي لها من إصدار هذا القرار، خصوصاً قرار الحرب والسلم وبسط سلاح الدولة على كامل التراب اللبناني، وأن تملك الدولة حصرية السلاح، وإعادة بناء الإدارة على معايير وظيفية لا تترك فيها ملجأً أو مرتعاً للفساد في كلّ مؤسسات الدولة الدستورية قبل الإدارية، والقضائية قبل العسكرية، وترسيخ ثقافة دولة الحقّ والقانون لترعى شؤون المواطنين وتصون حقوقهم وتلزمَهم تنفيذ واجباتهم في إطارٍ متساوٍ بينهم.

وأن يكون رئيساً حيادياً بين الأطراف السياسية، راعياً جميعَ أبناء الدولة وليس طرفاً مع أحد، فيما يرى «الحكيم» الذي يهدف إلى بناء هذه الدولة على أسس متينة، أنّ التموضع السياسي لعون لا يمكنه أن يضع قرار الحرب والسلم في يد الدولة في ظلّ تحالفِه مع «حزب الله»، ولا يمكنه أن يعيد الحزب من سوريا ويمنعَ موتَ محازبيه هناك، ولا أن يخضع سلاحه لإمرة الجيش اللبناني الذي يرغب عون في أن تكون قيادته محسوبةً عليه كما تدلّ الأحداث الآنية. إذ لماذا التنافس على قيادة الجيش من دون أن يكون فيها لعون قدرة على منع تأثير الحزب عليها؟

ليس هذا إلّا غيضاً من فيض في مسار قيام الدولة وبناء الجمهورية، فهل يرضى عون أن يتوّج مسيرته السياسية رئيساً للجمهورية وبانياً فعلياً لها بعدما ترهّلت بفعل الحرب والوصاية معاً؟

وهل يستطيع أن يبتعد عن «حزب الله» فيقف في الوسط، خصوصاً في كلّ ما يتعدّى فيه الحزب على سيادة الدولة ودورها؟ أم أن يكون رئيساً في جمهورية الورَق والاهتراء التي أنتجَتها مرحلة تطبيق الطائف، فننجز الإستحقاق وننسى الجمهورية، بدلاً من أن نؤسس على مبادئ لنبنيَ دولة ونحصد جمهورية.