في “لقاء الاربعاء النيابي” الاخير نُسب الى رئيس مجلس النواب نبيه بري كلام لافت ربما حمل بعض الجدة في شأن مسألتي قانون انتخاب جديد وانتخاب رئيس يملأ الشغور الرئاسي المستمر منذ قرابة عامين.
الباب الى هذا الكلام تمثّل في إعراب بري عن اصراره على اجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها المحددة، قاطعا الطرق امام تمديد ثالث لمجلس النواب المتقاعد حاليا عن اي فعل او تشريع حتى لو كان الانتخاب على اساس قانون الستين. كان ذلك الكلام بديهيا كونه أتى بعد نحو 36 ساعة على انجاز اول مرحلة من مراحل الانتخابات البلدية والاختيارية في بيروت والبقاع بنجاح تام، مما وسّع دائرة التشكيك الموجود اصلا في مسألة شرعية التمديد الاول والثاني للمجلس، ما وضع بري ايضا امام معضلة حقيقية في ما لو تجاهل الاتيان على طرح هذا الموضوع.
اما الجديد الذي برز في طيات حديثه تصريحا وتلميحا فهو:
– الكلام على امكان العمل جديا على ما صار يعرف بـ” القانون المختلط” الذي كان بري من اوائل الداعين اليه في وقت من الاوقات كحل وسط بين رافعي شعار القانون على اساس النسبية المطلقة يجاوره بطبيعة الحال مشروع “اللقاء الارثوذكسي”، وبين دعاة قانون الستين القائم على اساس الاكثرية المطلقة.
– اقترابه اكثر من اي وقت مضى من تبني فكرة اجراء انتخابات نيابية قبل انجاز الانتخابات الرئاسية، وهو ما يغاير تماما مضمون خطاب “تيار المستقبل” الذي لم يعد له من مادة الا مادة الدعوة الى اجراء الانتخابات الرئاسية قبل اي امر آخر انطلاقا من الشغور الرئاسي الذي هو رأس المعاصي وأسّ الشرور.
وعليه انشغلت اوساط سياسية بالعوامل غير المرئية التي استقى بري من بئرها ليدخل الى هذا الموضوع الدقيق بهذه الثقة والجرأة وفي هذا التوقيت بالذات؟
ثمة من اجاب على الفور بان رئيس المجلس شاء ان يمتص بهذا الكلام تداعيات نجاح المرحلة الاولى للانتخابات المحلية، ولكن ثمة من ذهب الى ابعد من ذلك عندما جزم بان بري قد التقط اشارات محلية وخارجية جيدة تنطوي على ان هناك سعيا جديا لانضاج طبخة تسوية مزدوجة غايتها انتاج قانون انتخاب جديد يرضي غالبية المسيحيين ويحاكي توجهاتهم ومن ثم اجراء انتخابات عامة على ان يليها ملء الشغور الرئاسي.
وفي هذا السياق، تكشف مصادر في “تكتل التغيير والاصلاح” ان التكتل وُضِع في شكل غير مباشر في اجواء مسعى يقوم به البطريرك الماروني بشارة الراعي وقد فاتح به الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ابان زيارة الاخير لبيروت واستكمله في لقائه الاخير معه في باريس.
والخطوط العريضة لهذا المسعى وفق المصادر نفسها تقوم على اساس فكرة اقرار قانون انتخاب جديد اولا ومن ثم اجراء الانتخابات النيابية قبل الانتقال الى مرحلة اجراء الانتخابات الرئاسية وما يلي ذلك من محطات دستورية مثل تأليف الحكومة واقرار الموازنة العامة واللامركزية الادارية.
ولهذا العرض بعدان: الاول الاقتناع بعقم الرهان على انتظار التسويات والحلول للقضايا الاقليمية المشتعلة ولاسيما القضية السورية، مما يحتم الشروع في رحلة البحث عن اقتناص فرص التسويات المحلية. والثاني انه يشكل عامل احراج واغراء لقوى ذات صلة بالملف الرئاسي ومتهمة دوما بالعرقلة، اي “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”. ففي حال التوجه جديا لاقرار قانون انتخاب جديد لا يعود امامهما اية مبررات للتخلف عن النزول الى مجلس النواب وانتخاب رئيس للبلاد.
وبحسب مصادر الطرفين ان العرض لم يصلهما بعد في شكل سلة متكاملة، بل انهما تبلغا كما سواهما من القوى المناخات اياها بالتواتر، وبالتالي فهما ليسا مضطرين لاعطاء اجابات حاسمة، ايجابية او سلبية، وذلك في انتظار تبلور الصيغة النهائية ولتوضيح امور عدة، وهل مدرج فيها مثلا فكرة الرئيس لسنتين وهو العرض الذي انشغلت به الاوساط السياسية منذ فترة غير بعيدة وتبين لاحقا انه لم يأت من فراغ بل ربما كان تمهيدا واجب الوجود لأي بحث جاد عن تسويات وحلول وافكار غير تلك التي تم تداولها سابقا.
وحيال ذلك فان السؤال المطروح هو: هل استعجل بري واستبق قطف الثمار قبل اوانها وهي ما زالت في طورها الجنيني، ام انه يتكىء على معلومات ووقائع تجعله مطمئنا الى ان بالامكان الان فتح الابواب الموصدة بإحكام؟
الاكيد ان بري استشعر هذه المرة مناخات اكثر جدية من جهة، واستشعر ايضا انه حيال انسداد الافق امام اقرار قانون انتخاب على اساس النسبية المطلقة بفعل استمرار مقاومة قوى اساسية له وفي مقدمها “تيار المستقبل” والحزب التقدمي الاشتراكي، وبفعل صعوبة العودة الى قانون الستين، لم يعد من خيار امام الافرقاء المعنيين الا التعاطي جديا مع القانون المختلط على اساس انه اهون الشرين. وهو مهد الطريق الى ذلك في كلامه من خلال رسالة مزدوجة: الاولى لمعارضي المختلط من خلال التلويح بامكان العودة الى قانون الستين، والثانية من خلال التصويب على طرح “تيار المستقبل” الداعي الى اجراء الانتخابات الرئاسية قبل اي شيء آخر في دعوة غير مباشرة للقول لهم بان عليهم تصويب بوصلتهم التي ما زالت خاطئة مع التطورات المتراكمة المستجدة بعيدا من الاضواء وبعد نجاح اجراء الانتخابات المحلية.
وما شجع بري على المجاهرة بما جاهر به هو انه لم يسمع اعتراضا قاطعا مباشرا على القانون المختلط وعلى فكرة رئيس لسنتين من حليفه “حزب الله” ومن حليف حليفه “التيار البرتقالي” ما يعني ان الابواب مفتوحة للأخذ والرد.
اما من جانب “المستقبل” فان بري يدرك ايضا ان هذا التيار لم يعد في وضع يسمح له بفرض شروطه وتصوراته، اذ ان تجربة الانتخابات البلدية فرضت عليه اتباع اسلوب المرونة.
في أي حال، كان بري، كعادته، على الموجة ويحسن التصرف بعد التقاط الاشارات، ولم يكن امرا عابرا ان يعزف عن التدخل في الانتخابات الفرعية في جزين.