أظهرت ردة فعلِ سوريا سلبيةً إزاء المساعي الروسية لعقد «مؤتمر الشعوب السورية» في سوتشي، وظهر الرفض علناً في أوساط المعارضة السياسية، كما في أوساط المعارضة المسلحة، ومنها أطراف كانت شاركت في مؤتمر «آستانة» الذي هو صنيعة روسية، وامتدت روح معارضة المؤتمر الروسي إلى أوساط سياسية واجتماعية وثقافية وشعبية أعلنَتْ رفضها المشاركة في المؤتمر، رغم أن بعض المعارضة، خصوصاً القريبين من موسكو ومن نظام الأسد، أبدوا موافقتهم على المشاركة، لكن موافقة هؤلاء لا تعني أن المؤتمر سوف يُعقَد، وأنه إذا انعقد سوف يحقق أهدافه.
السوريون، في غالبيتهم، يعرفون أن روسيا، اليوم، صارت فاعلاً رئيسياً في القضية السورية، ليس بسبب حجمها الدولي، وهي واحدة من الدول الكبرى، ولا بسبب إمكانياتها الكبيرة فقط، وإنما (إضافةً إلى ما سبق) بسبب وجودها السياسي والعسكري في سوريا، من جهة، ونتيجة استقالة الدول الكبرى والقوى الإقليمية من دورها، وعزوفها عن التعامل مع القضية السورية بما تستحق من أهمية.
ولهذه العوامل، يرغب كثير من السوريين في أن يكون لروسيا دور في معالجة قضيتهم وإخراجها من نفق القتل والتهجير والتدمير الذي تُوغِل فيه مما يهدد بنهايتها كياناً وشعباً لا أحد يسعى إلى الإبقاء عليهما، ووضع حد لكارثة سبع سنوات مضت، كلفت كثيراً من البشر والقدرات المادية، وخلقت معطيات جديدة لتدمير ما تبقى.
غير أن رغبة السوريين في دور روسي في القضية تصطدم بمواقف موسكو وخياراتها في سوريا؛ حيث عملت بصورة نشطة للحفاظ على النظام، وتصر على بقاء رأس النظام في السلطة بعد كل ما ارتكبه من جرائم، وتسعى بكل جهد لتبرئته من تلك الجرائم، وتبرر سياساته، وهي في سبيل أهدافها تتحالف مع إيران والميليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانب النظام، وقد عارضت أيّة سياسات اتبعتها الدول الأخرى والمنظمات الدولية لإدانة النظام والدفع نحو معاقبته على جرائمه، بل مارست شتى الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد دول من أجل تغيير مواقفها، كما فعلت مع تركيا التي أجبرتها على الانخراط في مسار «آستانة»، وفرض تعاونها في جلب قوى من المعارضة المسلحة إلى هناك.
أما في الداخل السوري فقد قامت بفعل الكثير؛ فإضافة إلى عملياتها العسكرية، خصوصاً استخدامها سلاح الجو في هجمات، تجاوزت ما تعتبرُهُ معاقلَ لقوى المعارضة المسلحة «الإرهابية والمتطرفة» إلى ضرب حواضن اجتماعية مدنية خارجة عن سيطرة النظام، بما فيها مناطق سكنية وأسواق ومدارس ومراكز طبية، لتسهيل عودة تلك المناطق إلى سيطرة النظام، وسَعَتْ إلى عقد مصالحات في مناطق استحال أو صعب إخضاعها بالقوة العسكرية، وأسهمت في عمليات التهجير بما يعني إعادة صياغة الديموغرافية السورية بما يتوافق ومصلحة حلفائها من نظام الأسد وإيران.
وأضافت، في سياق سياساتها، بناء حواضن سياسية مرتبطة بها على نحو ما هي عليه منصة موسكو، والجماعات المرتبطة بقاعدة حميميم الروسية، وأنشأت صلات مع أوساط اجتماعية في مناطق سيطرة النظام تؤيد السياسة الروسية في سوريا، كما نسجت علاقات عميقة مع شخصيات وفعاليات في الداخل، وبينهم عسكريون في جيش النظام وأجهزته الأمنية.
ورغم سوء الدور الروسي في سوريا وحولها، فإن كثيراً من السوريين يمكن أن يندمجوا في خط التفاهم مع موسكو وطروحاتها لمعالجة القضية السورية وحلِّها، إذا توفرت في الموقف الروسي تحولات أساسية؛ أولها إيقاف العمليات العسكرية ضد الأهداف المدنية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والسماح بالمرور الحر للسلع والبضائع والمساعدات الإنسانية إلى تلك المناطق، سواء كانت ضمن مناطق خفض التصعيد أو خارجها. والثاني تأكيد موسكو دورها المستقل في إنجاز تسوية للقضية السورية تشارك فيها كل الأطراف، تكون عتبتها إعلان جنيف لعام 2012 وما تلاه من قرارات دولية في هذا السياق، مما يعني الموافقة على قضية الانتقال السياسي بصورة مبدئية. والثالث انفتاح روسي أوسع على القوى والأطراف الدولية والإقليمية والداخلية المنخرطة والمهتمة بالصراع في سوريا وحولها، لضمان مساندتها للحل الروسي وتفاعلها الإيجابي معه.
إن قيام موسكو بهذه الخطوات، سوف يبدِّل من نظرة الأطراف المختلفة للدور الروسي في القضية السورية، وسوف يجعل السوريين بمختلف اتجاهاتهم وتوجهاتهم أقدر على التفاعل مع دور روسي بنّاء في حل القضية السورية وفي علاقات روسية – سورية أفضل في المستقبل.
لقد جرَّبَت موسكو طوال السنوات الماضية في القضية السورية سياسات مختلفة، بدأت من الدعم المستور لنظام الأسد إلى الدعم والمساندة المكشوفين، وصولاً إلى التدخلات العسكرية المباشرة، وممارسة سياسات التفرد، والضغوط المختلفة على كل الأطراف الداخلية والخارجية، ولم تصل إلى النتائج المطلوبة في تحقيق أهدافها ومصالحها، ولا في تحقيق أهداف ومصالح النظام وحلفائه، وفي ظل مساعيها الراهنة لتعزيز الدور الروسي وتقويته، لا بد لها من إجراء تغييرات في سياساتها، لأنها إن لم تفعل، فإن أطرافاً أخرى سوف تتدخل، وتشغل حيزاً أوسع في القضية السورية، والمثال الأكثر وضوحاً في ذلك ما حصل في الحرب على «داعش»، الذي أعطى الوجود الأميركي زخماً وأهمية في سوريا وقضيتها لم يكن حاضراً في السابق، وما لم تذهب موسكو في هذا الاتجاه، فلن ينفعها عقد «مؤتمر الشعوب السورية» في شيء، خصوصاً بعدما أثبت مؤتمر «آستانة» في اجتماعه الأخير أنه وصل إلى طريق مسدود.