ماذا يريد الأرثوذكسيون من لبنان وهل يفترض ان يتعاطوا مع هذا البلد بخلفيّة طائفيّة، أو ان لهم مسالك أخرى تسلخهم عن البيئات الطائفيّة لتجعلهم طائفة بالتسمية.
تجمع المراجع الأرثوذكسيّة جوابًا عن هذا السؤال على أن ليس من تصوّر واضح حتى الآن، نظرًا لانسياب ما سمي «بالفوضى الخلاّقة»- هو نظام جديد سواءً إلى بيئتهم الكنسيّة أو بيئتهم السياسيّة. هذا الانسياب أوجد عندهم تلاشيًا مقيتًا، بعضه يجيء من عدم التوثّب المضيء المطلوب في اللحظات المصيريّة والوجوديّة بكثافة وإلحاح، وبعضه الآخر فرضته الحرب في سوريا وعليها، وبالتحديد على المناطق والمدن المسيحيّة، وكانت عمليات القتل والخطف ومنها خطف مطراني حلب بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم متحكّمة بحراكهم.
في الرؤية الجمعيّة، ليس من فصل عضويّ بين الأرثوذكس في سوريا والأرثوذكس في لبنان، بحسب مرجع الارثوذكس، الإحساس المشرقيّ جامع وطاغ. ثمّة تمييز في الخصوصيات أي في علاقة هذا المكوّن بنظام الكيان السياسيّ هنا وهناك من حيث الأسلوب والمضمون أحيانًا، ففي سوريا هم موجودون ومؤسسون على القاعدة الوطنيّة، فالكتلة الوطنيّة التي أسسها فارس الخوري وشكري القوتلي والياس عبيد ورشدي الكيخيا ونوفل الياس وميخائيل إليان… وانطلق الحكم ما بعد الاستقلال على القاعدة الوطنيّة وليس الطائفيّة، وحزب البعث أسّسه مسيحيّ أرثوذكسيّ هو ميشال عفلق خلا من المألفات الطائفيّة واعتمد المألفات القوميّة والعروبيّة الحاضنة للمسيحية والإسلام.
لم يعتمد هذا الأسلوب بكليّته في لبنان. على الرغم من أن بعضهم تاق للعناوين القوميّة والجدليّة على القاعدة الماركسيّة من نقولا الشاوي وانتهاء بجورج حاوي، وقد استمدّوا نضالهم من فلسطين وتحالفوا مع منظمة التحرير الفلسطينيّة من ضمن المنظومة اليسارية الجامعة للقوى الوطنيّة في وجه ما سمي آنذاك المارونيّة السياسيّة. وعلى الرغم من هذا الاندراج القوميّ والعروبيّ والمشرقيّ، فإنّ الأسلوب الطاغي عند الأرثوذكس اللبنانيين انطلق من القاعدة الميثاقيّة والتشاركيّة وسطع ومن ثمّ هيمن بحسب المرجع، لقد تأسّس ذلك مع أوّل رئيس أرثوذكسيّ للجمهوريّة اللبنانيّة هو شارل دبّاس، وانطلقت رئاسته من دستور 1926، الذي كتبه ميشال شيحا، واستمر مع الرئيس الأرثوذكسيّ الثاني بترو طراد. لم ينفصل هذا الأسلوب عن مسراهم السياسيّ في لبنان، ولم يتأثر خروجهم من رئاسة الجمهورية وتحوّلها إلى الطائفة المارونيّة الكريمة. وبعضهم ما بين لبنان وسوريا ذكّر بأنّ الموارنة هم صمّام أمان ورئة الحرية لمسيحيي الشرق كالدكتور الياس عبيد في سوريا والدكتور شارل مالك في لبنان. وناضلوا من أجل استقلال لبنان حتّى العظم وكان الرمز الكبير آنذاك حبيب أبو شهلا، وقد تراس ما سمي بحكومة بشامون إلى حين خروج رئيس الجمهورية بشارة الخوري وأركان الحكومة آنذاك من سجن راشيا.
ليس السياق السياسيّ مقصيًّا عن سلوكيات الحاضر. ففي ذلك الزمن تلازمت الكنيسة بمجالس مليتها وشخصياتها والحالة السياسيّة والوظيفيّة، وفرضت دورها بهيبتها وتماسك شرائحها، ولم يستطع أحد اقتناص حضورها المتألق. يذكر المرجع الارثوذكسيّ العتيق، كيف كانت كلمة المطران إيليّا الصليبي رحمه الله وقد كان مطرانًا على بيروت وتوابعها تجذب المراجع إليه وتنفّذ إرادته. لم يتوان لحظة عن متابعة التطورات وإبداء موقف الكنيسة منها، وقد كانت دار المطرانية في بيروت المدى المكانيّ لرسم السياسة اللبنانية بوجود شخصيات كبار إلى جانبه من أمثال غسان تويني، فؤاد بطرس، نسيم مجدلاني، ميشال ساسين، منير أبو فاضل، فؤاد غصن، ألبير مخيبر…لقد أظهر الصليبي استقلالية أرثوذكسية عن المارونية السياسية في ذلك الزمن، وهذا ما اتاح له ان يرعى الحوارات في دار المطرانية بين معظم الفئات اللبنانية لا سيما في فترة الحروب فخرج الأرثوذكس معهم دوائر الاصطفاف وأمسوا جسرًا مديدًا بين الجميع. بهذا المعنى كانوا عروبيين وقوميين ولبنانيين، وأوّل صرخة لبنانيّة طالبت بخروج سوريا من لبنان كان المغفور له الدكتور ألبير مخيبر سنة 2000 والى موقفه استند وليد جنبلاط وأكمل الموقف عينه.
أمّا في هذا الزمن الحاضر، فيشكو الأرثوذكس في لبنان من تهميش متعمّد لهم في مواقع عائدة إليهم وقد أبعدوا وأقصوا عنها بحسب المرجع نفسه، ظروف هذا الزمن قد تختلف ببعض توجهاتها عن ذلك التاريخ، ولكن، في ذلك التاريخ وجد رجال أشدّاء ثبّتوا أقدامهم في الأرض فصنعوا الظروف وتكون التاريخ من ظروفهم. في ذلك الزمن ظهر الأرثوذكس فوق كلّ استيلاد وأبوا أن يكونوا جزءًا من كلّ في حين أنّ الأرثوذكس في هذا الزمن كانوا مستولدين وظلوا مستولدين من دون أن تسمع لهم كلمة.
هنا بيت القصيد. لماذا لم تسمع لهم كلمة لا في تأليف الحكومة ولا في التعيينات ولا في السياسات وتذهب بعض نخبهم وأوساطهم إلى سؤال واحد وهل لهم صوت يطرح لكي يسمع؟ عن هذا السؤال أجابت أوساط أخرى معنيّة، مشكلة الأرثوذكس في لبنان ليست مع الآخرين سواء كانوا أكثريات مذهبيّة أو طائفيّة، مشكلتهم مع أنفسهم. فعلى المستوى الكنسيّ، معظم الأساقفة لا يملكون أي إحساس بعمق الأزمة ضمن محيط سياسيّ متلاطم، وبطريركهم يوحنّا العاشر توّاق لبناء عمارة أرثوذكسيّة متكاملة الأجزاء، انطلقت من نقد ذاتيّ مارسه مع مقربين منه يشاء من خلالها تعميم المشاركة ضمن الكنيسة ليغدو الموقف أمتن وأفعل وأرسخ في علاقة الكنيسة بالدولة اللبنانيّة واستطرادًا في علاقة الكنيسة بالمشرق العربيّ برمتّه. هذا التمايز عند السيد البطريرك حاول بعضهم تجويفه من مضمونه إبطاله عن سعيه ونزعه عن هدفه، ولا تزال المحاولات قائمة، وهذا ما عمّق سوء الفهم بينه وبين بعض النخب. وتشدّد تلك الأوساط على أنّ المشكلة بنيويّة ويستغلّها الآخرون ليبنوا عليها رؤاهم ويمنعوا من أيّ تقدّم ممكن ويمعنوا في استيلاد الأرثوذكس كمكوّن رئيسيّ تاريخيّ كبير راسخ في الأرض، فيما هو نابض وناهض وناهد نحو الفجر.
ليس السؤال مطروحًا إذًا حول ماذا يريد الأرثوذكس من لبنان؟ السؤال المطروح ماذا يريد الأرثوذكس لأنفسهم، ماذا فعلوا كنيستهم، وماذا قدمت الكنيسة لهم من ديمومة وجود وشهادة على حسب تلك الأوساط المعنيّة؟ فعلى سبيل المثال لا الحصر، حين تأسّس اللقاء الأرثوذكسيّ وهو يضمّ مجموعة نخب لها تجاربها وخبراتها العلميّة والسياسيّة والاقتصاديّة والروحيّة حورب غير مرّة وتم رفض الحوار معه، وعلى الرغم من ذلك استمرّ وتقدّم، لكنّه لا يزال في مدى يحتاج إلى المزيد من التقويم والجهود والنقد في سبيل تحوّله إلى مؤسسة تمثيليّة جامعة ومرجعية ثابتة حاضنة لأرثوذكس لبنان وسوريا في تأوههم ومطاليبهم، على الرغم من زيارات قامت وتقوم بها وفود منه إلى المناطق ذات الأكثرية الأرثوذكسيّة.
معرفة الذات سمة مطلوبة ودقيقة في حالات تحتاج لمعالجات جذريّة وهادئة. وعلى هذا تقترح بعض النخب الأرثوذكسية، أن يبادر السيد البطريرك يوحنا العاشر للدعوة إلى خلوة أرثوذكسيّة يشترك فيها وزراء الطائفة ونوابها الحاليون والسابقون ومطارنتها وشخصيات نخبوية لها تجاربها الصادقة، وممثلون عن الجمعيات في الكنيسة متجاوزًا كلّ خلاف للبحث في واقع الأرثوذكس في لبنان وتتم الإجابة عن هذا السؤال «ماذا يريد الأرثوذكس من لبنان؟
وغالب الظنّ، إن المسألة ليست في حقوق مكتسبة تاهت أو سلبت. وقد كان المغفور له السفير فؤاد الترك يقول: ماذا يفيدني انا ككاثوليكي في لبنان إذا تسلم واحد من الطائفة هذا الموقع أو ذاك. اغتصاب الحقوق تعبير عن اعتراف الآخرين بموجودية الأرثوذكس التاريخيّة والتكوينية وديمومتها بالعمل والسعي مثلما الأرثوذكس معترفون بوجود الآخرين شركاء لهم في هذا البلد. بداءة المسألة أن يكفّ الأرثوذكسيون عن المماحكات الهذيانيّة ويتجنبوها، كما قال بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس، وان يدركوا بأن وقت الترف قد بطل وآن وقت العمل كما أظهر مصدر أرثوذكسيّ، وأن يلتقوا في خلوة عميقة وواقعية حتى يشخصوا مواقع الخلل وينتهوا إلى ما يريدون برؤى استراتيجية، ومسلّمات أساسيّة، وسلّم أولويات يكون على رأسها معرفة مصير المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم، ليس الخطف ما يخضّ ضمائرنا بل عدم التفاعل الجديّ مع هذه المسألة الخطيرة هو ما يخضّها. فمتى لامسوا الجراح وكشفوا عن مكامن الخلل وأوجدوا العلاج الناجع حينئذ لا ينتظرون الجواب بل يغتصبون الحق اغتصابًا يشرقون به في المساحة اللبنانية والمشرقية ببهاء كبير.