٣ أيار ١٩٦٨ احتل طلاب جامعة السوربون وسقط مائة جريح، وفي اليوم التالي وقع الاضراب في الجامعة وبدأت ثورة ١٩٦٨. لم تقع الثورة من فراغ. كان العالم كله يعيش فوق براكين. كانت حرب فيتنام تنزلق نحو المواجهات الكبرى التي انتهت بوقف الغارات على شمال فيتنام، وكان «ربيع براغ» يبرعم ليزهر وليتم فوراً بعد مانيفست «الألفي كلمة» بالقضاء عليه بدبابات حلف فرصوفيا بقيادة الاتحاد السوفياتي، راسماً بذلك بداية نهاية الاتحاد السوفياتي نفسه الذي لم تستوعب قيادته الجامدة انه لا يمكن القضاء على «ربيع الشعوب» حتى ولو ملأت الدبابات الشوارع وزرعت الرعب…وقبل ان ينتهي العام كان الجنرال ديغول بكل ما يملك من تفاعل مع الحاضر والتاريخ يستعد عملياً لترك فرنسا تصيغ مستقبلها بدون رعايته «الأبوية»، بعد ان عاش وراقب الوحدة الطلابية ـ العمالية، قائلاً «نعم للتغيير». وأما في الولايات المتحدة الاميركية فكان اغتيال الرئيس جون كينيدي يرسم التحول الأميركي وحتى التغيير العميق في قلب مجتمعها وتكويناتها السياسية…
وقعت حركات طلابية ثائرة في جامعات كثيرة في العالم بما فيها اليابان…وحدها فرنسا تغيرت وغيرت في العالم. كان الشعار الطاغي الجميل وحتى العبقري الذي لم يعرف من خطه على الجدران والمظاهرات في شوارع باريس وباقي المدن: «كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل». بعد نصف قرن يبقى السؤال قائماً: لماذا نجحت الثورة في فرنسا ولماذا فشلت في أنحاء العالم?…لا شك ان وجود قيادة حكيمة بوزن الجنرال ديغول، وقيادات شابة أنتجت في ما بعد فلاسفة وسياسيين ما زال العديد منهم حتى اليوم يتابعون الانتاج والعطاء، والاهم شعب عرف كيف ومتى يدعم الجنرال ديغول ولا يتخلى عن «ابنائه» حتى عندما غضب البعض منهم…هذا المزيج الاستثنائي والتاريخي انتج تغييراً مهمّاً انتشرت تردداته في أنحاء العالم.
اما عندنا فقد انهار «الربيع» الى درجة ان البعض يصفونه اليوم بالشتاء والكارثة الخ…في الواقع لم ينهر «الربيع العربي» لقد مرت عليه دبابات اكثر دموية واستئساداً ورفضاً للتغيير والتقدم من دبابات «حلف فرصوفيا». بدون مبالغة لقد خاف العالم وبلا استثناء وكل واحد منهم من ولادة «الربيع العربي». البعض خاف من زلازله الارتدادية خصوصاً اذا كان البديل ولادة ديموقراطية من صناعة الشعب، ومنهم من خاف على مصالحه ونفوذه ومنهم من أراد صناعة التاريخ على مقاس طموحاته…لقد أغرقوا هذا «الربيع» في بحور من الدماء والتطرف الديني والمذهبي والعسكرة…
المجازر التي سقط فيها مئات الألوف من العرب والأكراد والقادمين من وراء الجغرافيا والتاريخ (بعيداً عن الهويات) حتى يقرأ الجميع فعل الندامة عن الاندفاع خلف التغيير، ستنزل عميقاً في عمق اعماق الارض العربية وستكون بلا مبالغة ولا تمني وانما «بواقعية طلب المستحيل»…وسيعيش العالم وليس بعد زمن طويل ولادة جديدة تماماً كما حصل بعد «سحل ربيع براغ»…نهاية الاتحاد السوفياتي وكل الأنظمة التي اقتاتت منه ومن التمثّل به…