منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام ٢٠٠٥ تتعرّض الطائفة السنّية لضربات متتالية نالت من دورها في الحياة السياسية، في ظلّ التعرّض الدائم لصلاحيات رئاسة مجلس الوزراء ومحاولة تطويق رئيس الحكومة والتعامل معه على انّه «باش كاتب»، والسعي الى تعديل اتفاق «الطائف» بالممارسة.
وقد شهدت السنوات الثلاث من العهد «القوي» محاولات عديدة لتطويق وتطويع رئيس الحكومة سعد الحريري وتهميش السنّة في لبنان. وجاءت نتائج الانتخابات النيابية لعام ٢٠١٨ لتساهم في اختلال موازين القوى على حساب السنّة، نتيجة قانون الانتخابات الهجين والجائر الذي فرضته التسوية الرئاسية. وقد لمس اللبنانيون السنّة مدى خطورة وجدّية التجاوزات التي يمارسها العهد، بدءاً من صدور بيان عن رئاسة الجمهوريّة يتناول معايير جديدة لتشكيل الحكومة، وبدعة «حصّة رئيس الجمهورية الوزارية»، والتهديد بسحب تكليف رئيس الحكومة المُكلّف، ووزراء يوقّعون استقالاتهم مسبقاً ويضعونها بتصرُّف رئيس «التيار الوطني الحر»، وليس آخرُها اجتماع وزراء «التيار» في مقر وزارة الخارجية والمغتربين على شكل حكومة مصغّرة في الوقت ذاته لموعد عقد جلسة مجلس الوزراء.
مؤشرات الحصار المفروض على الموقع السنّي الأوّل لا تقتصر على ملف حادثة «البساتين»، الذي أدّى الى «الاعتكاف» غير المُعلن لرئيس الحكومة وتعطيل انعقاد مجلس الوزراء بسبب التجاذبات حول المجلس العدلي، والتي يستثمرها حلفاء العهد لتصفية الحسابات السياسية، وتحقيق المزيد من المكاسب السياسية على حساب الوطن والمواطنين، بل تتوسّع مؤشرات الحصار لتشمل تخفيض موازنات الإدارات والصناديق التابعة لرئاسة مجلس الوزراء بنسبة ٧٠ بالمئة استنسابياً، ودون سواها من الإدارات، في خطوة يراد منها محاصرة رئيس الحكومة وتحميله تبعات الإخفاق في تحقيق أي انجاز.
وهناك أيضاً مسألة المادة ٨٠ من قانون الموازنة العامّة والتي تحفظ حق الناجحين في مباراة مجلس الخدمة المدنيّة، والتي أطلق الوزير جبران باسيل بشأنها سلسلة تهديدات بتعطيل الحكومة إذا لم تكن الأمور وفق رغباته، حيث وصل التصعيد إلى حد قوله «فلتسقط كل الموازنة إذا كان الأمر كذلك»، منذراً من احتمال امتناع رئيس الجمهورية عن توقيع قانون الموازنة بحجّة انتفاء المناصفة، علماً ان المناصفة الكاملة التي يسعى إليها الوزير باسيل هي مخالفة للدستور في المادة ٩٥ منه. وعلماً ان مسألة المادة ٨٠ المشار إليها تتعلق بما يسمّى بـ «فرسان الموازنة»، أي النقاط التي يمكن ضمّها الى الموازنة من دون أن تكون لها علاقة مباشرة بها، ولا تتعلق بمسألة المناصفة!
وبالرغم من توقيع رئيس الجمهورية قانون موازنة العام ٢٠١٩ وأحالته للنشر، وجّه فخامته رسالة إلى مجلس النواب لتفسير المادة ٩٥ من الدستور، والتي تُعنى بإلغاء الطائفية السياسية والمرحلة الانتقالية خصوصاً لجهة طائفية الوظائف والمناصفة فيها، وذلك من ضمن مسار الاعتراض على المادة ٨٠ من قانون الموازنة، ومحاولة ابتداع عرف المناصفة الشاملة.
هذه الخطوة نقلت السجال من مجلس الوزراء الى المؤسسة الأمّ في مجلس النواب في رسالة وتّرت المناخات المحمومة أصلاً لأنها تُعتبر سعياً للانقلاب على «الطائف» ومحاولة مُقنّعة لتعديل الدستور؛ وهي ستضع مجلس النواب أمام معضلة اختيار آلية تفسير المادة ٩٥ من الدستور ما بين التفسير بقرار أو بقانون، أو فتح باب الاستنساب والهرطقات الدستورية، علماً انّه لا يُمكن تفسير الدستور إلا بقانون دستوري. وهذه الخطوة هي حتماً مناورة لإحراج باقي الأطراف، لا سيّما السنّة، وإعطاء الوزير باسيل زخماً مسيحياً يُظهره المدافع الأوحد عن حقوق المسيحيين!
ليس هذا وحسب، بل هناك لجوء واضح إلى ابتزاز رئيس الحكومة عبر طرح ترشيح شاكر البرجاوي بديلاٍ له، مع التسويق الى ان الرئيس الحريري «لم يعد مشروعاً سعودياً في لبنان»، وأن من يُبقي عليه في موقع الرئاسة الثالثة هم رئيس الجمهورية وحليفه «الحزب»، فإذا خرج الرئيس الحريري عن إطار سياسة الحلفاء تم استبداله.
من يتابع المشهد الحالي في هذه المرحلة المفصليّة، يدرك أن التوازنات الطائفية والمذهبيّة التي أرساها اتفاق «الطائف» قد اختلّت لصالح بدع جديدة يُراد ترسيخها اعرافاً بحجّة «إستعادة» حقوق المسيحيين حيناً، والحفاظ على الميثاقيّة أحياناً أُخرى. وبسبب الممارساتٍ السياسيّة المذهبيّة الإلغائية لفريق العهد وحلفائه، الساعية إلى تفكيك اتفاق «الطائف» تمهيداً لإلغائه، باتت مسألة وجود الطائفة السنّية، التي تعدّ الأكبر عدداً في لبنان، في خطر داهم.
وطالما هناك تصويب مستمرّ على الرئاسة الثالثة فذلك سوف يُحفز ردود فعل عنيفة تُجاه العهد ورمزه الأوّل، وفتح باب «معارضة العهد»، باعتبار ان فخامة رئيس الجمهورية يتعامل مع المسألة كطرفٍ لا حكم. ويمكن الاستنتاج بأنّ خطابات الوزير باسيل المستفزّة والشعبوية من وحي أفكار فخامته، خصوصاً ان الأخير كان قد خيّر الفرقاء السياسيين عام ٢٠١٥ ما بين تعديل «الطائف» واستعادة الرئاسة الأولى جزء من قوّتها التي «سلبها الطائف»، أو «الفيديرالية» التي تهدف الى قيامة «وطن قومي مسيحي» منفصل عن المسلمين. وهذا ما لمّح إليه الوزير باسيل مؤخراً حين قال «لا يهدّدنا أحد بالعد لأننا نحن لنا خياراتنا أيضاً».
ويبقى السؤال الأهمّ هو كيفيّة الحفاظ على ما تبقّى من صلاحيات وحقوق السنّة المستباحة ووقف السقوط المتمادي الذي طال دورهم في الحياة السياسية؟ هناك دعوة شعبيّة للقيادات والنُّخب السنيّة إلى رصّ الصفوف حول الحدود الدنيا من القواسم المشتركة والمصلحة العامة للطائفة، وذلك بهدف وقف تجاوز الدستور واستهداف رئاسة الحكومة، وإلتزام الفصل بين السلطات واحترام صلاحيات كل منها.
أصبح لزاماً إزاء خطاب التقسيم الطائفي والمذهبي لفريق «العهد»، أن يُجابه هذا التعاطي الإلغائي الصارخ المستفزّ بصفٍّ موحّد من العقلاء اللبنانيين على غرار مشروع «مجلس الحكماء»، لردّ اعتبار «الطائف»، ووضع حد لاستمرار «العهد» وحلفاؤه في تجاوز الدستور والتمادي في مخالفة نصوصه، بهدف تهميش الطائفة السُنيّة وتطويقها من جهة، والانتقاص من حقوق الطوائف الـ ١٦ الأُخرى واختزالها بحقوق «التيار» من جهة أخرى. ويجب العمل فوراً على تطبيق جميع البنود الإصلاحيّة في اتفاق الطائف وصولاً الى إلغاء الطائفية السياسية، قبل أن تتفاقم الأزمات والخضّات الداخلية، فيجد اللبنانيون أنفسهُم أمام حرب أهليّة جديدة لا تُحمد عقباها!