IMLebanon

العشّارون

إنكم تعشّرون النعناع والشبث والكمون وقد تركتم أثقل ما في الناموس وهو العدل والرحمة والإيمان.

يسوع المسيح (إنجيل متى 23:23)

كان زكا العشار قصير القامة، فاعتلى جمَّيزةً لينظر السيد المسيح الذي كان مزمعاً أن يجتازَ بها. فلمّا انتهى يسوع إلى الموضع رفعَ طَرْفه فرآه فقال له: «يا زكّا أسرِع انزِلْ فاليومَ ينبغي لي أن أمكثَ في بيتك».

توبة زكا دفعته إلى أن يعلنَ استعداده التعويض على من غَبَنَهم شيئاً بأن يردَّه لهم أضعافاً أربعة. أما الفريسيون فظلوا يأكلون حقوقَ الشعب، معتقدين بأنها لهم أصلاً أو أنَّهم على الأقل أولى بها منه.

اسْتَشْرَتْ طبقة العشارين عندنا منذ السبعينيات وقامت على اختلاف مشاربها، واتفاق مقاصدها، باستنزاف الشعب اللبناني وخلخلة الدولة، وتتفيه الاقتصاد، وتعهير الثقافة. هؤلاءِ، بخلافِ زكا الذي مُنِحَ شرف استضافة يسوع، لا يجوز لأيٍّ منهم أن يضاف في بيت، أو يدخل هيكلاً.

أقول هذا بمناسبة إيصالنا إلى برزخ آل فيه مفهوم الديموقراطية إلى أن يقوم المرشحون هم أنفسُهم بانتخاب المقترعين، ليمنحوهم شرف تمثيلهم إلى دهر الداهرين.

وكنتُ أشرتُ في مقالتي السابقة إلى أن الصفقة التي أدّت إلى انتخاب فخامة الرئيس كان يجب أن تتضمّن توافقاً على قانون انتخاب واقعي يقينا عثرة الفراغ، أو نكدَ الابتزاز المعادل للفراغ بنتائجه وخطره. ولأنَّ هذا لم يحصل حينذاك، فلقد دخلنا في نكوص مخجل قادنا إلى التجزئة التعسفية للناخبين، بحيث تصبح ورقة الاقتراع، وثيقة دامغة على خروج اللبنانيين من جلودهم، وانشطارهم عن هوياتهم، وانفصاماً رهيباً داخل الصيغة الوطنية.

منذ شهر، تكرم الوطني الكبير، علاَّمة القانون وعلامتُه الراقية الأستاذ حسن الرفاعي، فهاتفني معلِّقاً على إحدى مقالاتي، وأشار إلى أن المعادلة اللبنانية تحتِّمُ على أي طرف من أطرافها الدفاع عن مصالح الأطراف الأخرى، ليس من باب الالتزام بالعقد فحسب، ولا بسبب الأخوة وواجب الحفاظ على صلة الرحم، ولا لعلَّةِ كرم الأخلاق، وإنما من أجل الحفاظ على الوجود؛ لأن أيَّ غلبة هنا، تفضي إلى إلغاء المعادلة، فاندثار الدولة، فتعريض الشعب اللبناني لمصير نشهد نظيره في دول الجوار الشقيقة. وأضاف: ينبغي أن يمنع أحدنا الآخر من حفر قبره بيده، لأنه بهذا يحفر لنا معه قبورنا أجمعين.

قد تكون النزعة الانتحارية مستوطِنة في خارج الوعي، وقد ينخدع صاحبها فيظن أنه في غاية الفطنة إذا تمكّن من استثمار الصعوبات في المجتمع، أو الخلل في بنيته، في ظلّ موازين قوى رجراجة، فيشرعُ في استثمار التطورات الاقليمية، أو يستقوي داخلياً، ويشتط في حسابات الحقل إلى ما لا تسمح به وقائع البيدر الراسخة، وما لا يوافق مصالح الحلفاء؛ وعلى هذا فإن أمرين يجب أن يؤخذا بالجدّية اللازمة:

الأول: أن اللاعب بالبورصة، كمَن يرتع في ملك غيره، متوهماً أنه المالك، فإذا به عند أي تقلّب بسيط، مطروحٌ على قارعة الطريق.

الثاني: أن التغريد خارج مصالح السرب، وإن استعذب صاحبُه صوتَ نفسه، هو أقرب إلى النعيق، الذي يقودُ إلى نعيب فوق أطلال دولة ثمينة لم نحسن تقدير قيمتها.

في رواية نجيب محفوظ الشهيرة «ثرثرة فوق النيل»، اجتمع الحشاشون في العوّامة، بعد صدم سيارتهم لأحد المارة، ليبحثوا في الإجراء اللازم اتخاذه. فاقترح كبيرهم الاحتكام إلى الديموقراطية واللجوء إلى التصويت. فاقترعوا على دم القتيل، وكانت النتيجة أن الديموقراطية أكلت حقوق الأطفال الجوعى الذين فقدوا والدهم، لأن «نخبة ديموقراطية» صدمته في لحظة من فقدان الوعي.

أظن أننا في فترة نحتاج فيها إلى «عودة الوعي» لأن الخرائط التي ترسم بالدماء والأشلاء، والعلاج الكيميائي، والتغول الدولي، قد تمتد تضاريسها إلينا. فالشعب السوري المظلوم المنتشر في داخل القطر وفي أنحاء العالم، لا يقوى على الصبر أكثر مما صبر. ودولة مثل لبنان يحدث فيها ما لم يحدث في التاريخ، باستقبال ما يوازي نصف عدد شعبها لأمداء غير منظورة، لن تقوى على الصمود أكثر مما صمدت، وصيانة حدودها أكثر مما صانت، وحراسة سواحلها أكثر مما حرست، وهذا يفرض علينا، أن نترك وراءنا لبعض الوقت، أوهام الهيمنة، والشعور بالانتفاخ. فالأرض التي نصبنا فيها طواحين هواء افتراضية نصارعها في النهار، ونبيت على أمجادنا في الليل، قد أصبحت رخوة جداً، بحيث إنّ المرء إذا اشتبه بأنه قابض على الزمام، لا يكون حقيقةً إلاّ كمَن يقبض على الريح، أو على الجمر، فلن يظلَّ له من بعد سوقٌ ينفق فيها ما قبضه من عرقنا ودمائنا.

قال السيد المسيح:

الويل لكم أيها الكتبة والفِرِّيسيون،

إنكم تُحَمِّلون الناس أعباء ثقيلة ولا تمسونها بأحد أصابعكم.