عملية ذبح الكاهن الفرنسي العجوز على أيدي مسلحين من تنظيم «داعش» في فرنسا، يؤشر الى نمط جديد في تعامل التنظيم مع أوروبا. فهل ينأى لبنان عن هذا المسار؟
لا تشبه عملية ذبح الكاهن الكاثوليكي في كنيسة في إحدى قرى فرنسا المنسية عملية ذبح الرهبان السبعة في تيبحرين في الجزائر عام 1996 على أيدي إسلاميين متشددين، وإن كان الاسلوب المعتمد نفسه، والقائمون بالعمليتين ينتمون الى المدرسة نفسها.
فاستهداف الكنيسة في فرنسا هو تحوّل في العمل الاصولي المباشر الذي يطاول مؤسسة دينية كنسية في أرض «مسيحية»، وليس في أرض إسلامية يُتّهم رهبان فيها بالتبشير. وهي عملية تشبه مشاهد الذبح على الهوية، ليس الهوية الدينية فحسب، بل هوية الانتماء الى حضارة والى جغرافيا والى دين.
عملية أمس شدّت الانظار اليها، ولا يمكننا في لبنان، الذي لا يبدو أنه سينجو من ارتدادات أزمة النازحين السوريين والحرب السورية وما أفرزته من توسع «داعش»، وما شهدناه من ذبح العسكريين المخطوفين ومن تفجيرات انتحارية، إلا أن نتطلع الى ما يحدث في فرنسا من انفلاش هذا العمل الاصولي بوتيرة سريعة وفي أماكن متنوعة، وتفنن في ابتداع أساليب القتل، وصولاً الى استهداف الكنائس وذبح الكهنة.
ليس أمراً بسيطاً ما حصل أمس بعد العملية. الاستنفار «المسيحي» في فرنسا بدأ يفرض إيقاعه بعد كل عملية، من نقل تلفزيوني لإقامة الصلوات في الكنائس وإضاءة الشموع والكلام عن الانتماء الديني للضحايا والمنفذين، ودعوات المتشددين الى إنقاذ مسيحيي فرنسا وأيضاً مسيحيي الشرق. ورغم أن الكنيسة الفرنسية «الرسمية» والمتحدثين باسمها واظبوا أمس على الفصل بين ردّ الفعل السياسي والامني تجاه العملية، وموقف الكنيسة الداعي الى الصلاة والتسامح وعدم تحويل ما يحصل حرباً دينية، إلا أن ذلك لا يعني أن ارتداد العملية الارهابية لن يبقى من دون صبغة طائفية، سبق أن عاشتها دول عدة، ولبنان منها.
لكن ما حصل سيأخذ أيضاً أهميته في الجانب الأمني منه، إذ يعيد التركيز على الامن الاستباقي الذي تقوم به أجهزة الامن والاستخبارات، في وقت تغرق فيه التحليلات الفرنسية والاوروبية في تحليل المعطيات عن تقلص البقعة الجغرافية لـ»داعش» في سوريا والعراق، من دون الانتباه الى خروج هذا التنظيم من «أرض الخلافة»، وتجنيد مهاجرين أو نازحين في خدمة مشروع بث الرعب في أنحاء أوروبا، علماً بأنه بعد لحظات من أي عملية جرت أخيراً، كما حادثة أمس، يبدأ تدفّق المعلومات حول انتماءات المنفذين وتاريخ انتمائهم الجهادي وانتشار الاصولية في بقع إقامتهم.
يصبح الكلام عن خطر الأصولية وكأنه يصبّ في خانة التهويل والعنصرية والتحريض ليس إلا
في الايام الاخيرة التي رافقت العمليات التي استهدفت فرنسا والمانيا، وقبلهما بلجيكا، تمحور كلام القادة الاوروبيين والمسؤولين الامنيين في كل من البلدين حول ضرورة التأقلم مع واقع جديد، أي الحرب التي أعلنها «داعش» وبدأ تنفيذها، كما قال وزير الداخلية الالماني توماس دو ميزير، في حديث الى دير شبيغل، «إن ألمانيا يجب أن تعتاد الاجراءات الامنية المشددة في الكارنفالات والمهرجانات وملاعب الكرة والمؤتمرات الكنسية».
ثمة سؤال معبّر طرحه الصحافي الالماني على وزير الداخلية: هل يمكن أن تتحول المانيا كإسرائيل دولة تنتشر فيها الحواجز والاجراءات الامنية في كل زاوية وشارع؟ بصرف النظر عن المقارنة بين الذين يستهدفون اسرائيل ويستهدفون المانيا أو فرنسا، فإن ثمة مكاناً للنظرة العقلانية الى مصير دول أوروبية تسير على نحو إعادة فرض الامن بطريقة غير مسبوقة. فالعمليات الاخيرة التي قام بها تنظيم «داعش»، كالدهس بالشاحنة، ومهاجمة ركاب قطار أو تفجير ملهى أو الهجوم بالسكاكين واستهداف كنيسة لا يوجد فيه سوى كاهن عجوز وأقل من خمسة مؤمنين، دلّت على تغيير الاستراتيجية لدى «داعش» في اختبار فاعلية كل الاساليب الممكنة لتنفيذ عملية قتل، الى حدّ تحوّل سكين أو ساطور وسيلة توازي بأهميتها تفجير قنبلة أو القتل بالسلاح. ويبدو أن هذا الاختبار نجح في إحداث الرعب المطلوب، بدليل ردّ فعل فرنسي استدعى مجيء الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الى الكنيسة، ليس لأن الذبح أسلوب جديد يعتمده «داعش»، وهو الذي نفذه في سوريا والعراق وحتى ضد مجموعة من الاقباط المصريين في ليبيا، بل لأنه يؤشر الى أن ما بدأت تواجهه أوروبا ليس عمليات منعزلة، بل مسار حرب طويلة، وأساليب جديدة، لا يعرف الامن الاستباقي كيفية مواجهتها بعد بأساليبه التقليدية، خصوصاً مع اختيار عمليات في مناطق نائية وكنيسة بعيدة عن الحماية التقليدية التي باتت فرنسا تطبقها، خصوصاً في أماكن سياحية وأثرية معروفة.
وإذا كانت فرنسا وألمانيا لا تزالان تتخبطان في مواجهة هذا المد الاصولي وعملياته المتنوعة، وتغرقان في متاهة البحث في التشريعات والاصول القانونية لترحيل المتهمين أو الذين عادوا من سوريا اليهما، فكيف الحال مع دول مثل لبنان، تفتقد أدنى مقومات الأمن العادي، وتعيش خواءً سياسياً وفراغاً على كل المستويات الامنية والسياسية، وتتعرض يومياً لهزات مماثلة، لكنها تنأى سريعاً عن البحث في سدّ الثغر الامنية، والغرق في متاهات سياسية يومية؟ هذا ما جرى بعد تفجيرات الضاحية الجنوبية وما حدث بعد العمليات الانتحارية في القاع، ويجري اليوم مع الحديث عن مخيم عين الحلوة والخطر الاصولي المتشعب منه. ثمة موجات أمنية يعيشها لبنان، حين يغلب الحدث الأمني والهاجس من العمليات الاصولية على ما عداه. لكن سرعان ما تنحسر هذه الموجة، ليصبح الكلام عن خطر الاصولية التي تتفشى في بعض مجتمعات النازحين السوريين أو في بؤر لبنانية أو فلسطينية معروفة، وعن العجز الأمني في ضبط كل مسارب هذا الانفلاش، وكأنه يصبّ في خانة التهويل والعنصرية والتحريض ليس إلا. وحده الذبح أصبح الحقيقة الوحيدة، من لبنان الى أوروبا.