يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب غطرسة سياسية غير مسبوقة، لا في التاريخ الأميركي ولا على المستوى العالمي، باصراره على الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لاسرائيل. وهو يناقض بذلك مواقف كل الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه وتعاقبوا على البيت الأبيض، بمن فيهم رؤساء غير مشكوك بصهيونتهم، وكانوا صهاينة في سياستهم الاسرائيلية أكثر من بن غوريون نفسه! ولكن كان لديهم قدر من الرؤية والحكمة بحيث أحجموا عن الاقدام على هذه الخطوة المتهورة بما تنطوي عليه من احتمال اشعال شرارة هيجان شعبي على امتداد القارة العربية والاسلامية، ويستفز مشاعر نحو ملياري مسلم في العالم، ويطلق سونامي من التطرّف والارهاب والعنف والهستيريا والجنون على امتداد المعمورة!
***
على الرغم من اصدار الكونغرس الأميركي قرارا غير ملزم يجيز للرؤساء الأميركيين نقل السفارة الأميركية الى القدس، غير انه اشترط حماية الأمن القومي الأميركي أولا، وتفويض الرئيس بتأجيل نقل السفارة لمدة ستة أشهر. وهذا ما فعله كل الرؤساء السابقين الذين تهيّبوا من الاقدام على هذه الخطوة وتداعياتها الرهيبة في المنطقة والعالم، وأضرارها الفادحة على المصالح الأميركية داخل العالم الاسلامي وخارجه. وكان في يقين أولئك الرؤساء الأميركيين ان الأنظمة العربية والاسلامية، أيا كانت نسبة تبعيتها لأميركا، فانها ستكون عاجزة أمام الهستيريا التي ستعمّ الجماهير والشعوب، وتشكّل طوفانا يجتاح كل شيء في اندفاعته الجارفة. ويبدو الرئيس ترامب وحيدا اليوم في مواجهة معارضي قراره هذا من كبار المسؤولين الأميركيين بمن فيهم وزير الخارجية ووزير الدفاع ومدير المخابرات، وكذلك كبار المسؤولين في العالم، في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وروسيا والصين، ودول كثيرة في آسيا وأفريقيا.
***
… وخلافا لما يبدو عليه الأمر في الظاهر، ومحاولة ترامب اظهار نفسه بصورة الرئيس الصلب والشجاع والعنيد، وغير المتهيّب من مواجهة العالم، فانه في الواقع يقدم نموذجا غير مسبوق في الجبن السياسي، متى عُرفت الدوافع الحقيقية لاتخاذ قراره هذا وفي هذا التوقيت بالذات! وفي حقيقة الأمر ان الرئيس ترامب يعاني اليوم من حالة اختناق: داخلية تضغط على عنقه شخصيا، وخارجية يقف عاجزا في مواجهتها وتهدّد باشعال حريق عالمي يهدّد أميركا ومصالح غالبية من دول العالم. والكابوس الداخلي الذي يعاني منه ترامب اليوم له اسم وهوية وهو روبرت مولر المحقق الخاص الأميركي وفريقه، بفضيحة ترامب وفريقه الانتخابي حول الاتصال بالروس، وطلب مساعدتهم للتأثير على خصمهم الانتخابي هيلاري كلينتون وتشويه سمعته، بما يخدم فوز ترامب بالرئاسة! وتقول المصادر ان مشاعر الذعر والهلع هي المخيّمة على البيت بعد اقتراب المحقق مولر من عائلة ترامب وصهره جاريد كوشنير، وبعض أركان الحملة الانتخابية للمرشح ترامب! أما الخطر الخارجي فهو التحدّي غير المسبوق الذي أظهرته كوريا الشمالية في وجه ترامب وادارته، وكان آخرها الصاروخ الباليستي عابر للقارات الذي يصل مداه الى واشنطن، والى ما بعد ما بعد واشنطن!
***
الجبن السياسي، وحالة الهلع من المصير المسيطرة على ترامب، هي التي صوّرت له أن الطريقة الوحيدة لحذف هاتين الأزمتين الداخلية والخارجية من الوجود، ومن الاهتمام الداخلي والخارجي، هو تفجير أزمة جديدة على المستوى القاري يكون من شأنها امكانية استمراره في البيت الأبيض! وليست حسابات ترامب في هذه المسألة في الولايات المتحدة أذكى بكثير من حسابات علي عبدالله صالح في اليمن!