نظرة الفاتيكان إلى السياسيين والإكليروس اللبناني متقاربة
عندما غادر الكاردينال دومينيك مومبارتي لبنان اوائل شهر حزيران، كان كثر من أساقفة الكنيسة المارونية يرددون عن لسانه أسفه ويأسه من الطبقة السياسية اللبنانية، خصوصا المسيحيين منهم. لم يدركوا أن الانطباع الذي خرج به الكاردينال الفرنسي عن الكنيسة المارونية وسلوكياتها أشد قسوة ومرارة، ومدعاة للمراجعة الجذرية.
فالكاردينال الجديد الذي عيّنه البابا فرنسيس في شباط من هذا العام، يحظى بثقته ودعمه. هو ممن يراهن معهم على إحداث تغيير في توجهات الكنيسة ووجهها الذي تعكسه ممارسات أحبارها وآبائها في الدرجة الاولى.
عاد مومبارتي الى روما، ورفع ما صار متعارفاً على تسميته بـ «التقرير الأسود». لا يفيد الكثير الدخول في تفاصيل ما تضمنه التقرير من ملاحظات ومآخذ، بعضها يذهب الى حد العتب والملامة الشخصية لمراجع ومسؤولين كنسيين محليين. قد يكفي التأشير الى استخدامه عبارة «كنيستكم من حجر وبلا رحمة». فيما كان يقال عن البطاركة والمطارنة الموارنة إن «عصيّهم من خشب وقلوبهم من ذهب».
لكن تجاوز الشخصي والملاحظات المتنوعة و«المناكفات» التي تحصل في بكركي، كما غضّ الطرف عن الدخول في صراعات الرهبانيات المارونية، لا يعني تجاوز ما سلط التقرير الضوء عليه لجهة تأثير الكنيسة على مسار المسيحيين ومصيرهم.
سارع بعض رجال الدين، ومنهم كثر ممن يعرفون أنهم أول المستهدفين، الى نفي كل ما أشيع عن هذا التقرير وصولا الى حدّ إنكار وجوده. تحفظ آخرون مدعين «عدم المعرفة»، فيما يؤكد أحد المسؤولين في الكنيسة أن «الفاتيكان يهتم دوماً بشؤون الكاثوليك في كل العالم. وهو يحظى بتقارير دورية عن أوضاعهم وعن المشاكل التي يواجهونها، سواء ككنائس وأديار ورهبانيات، أو كمجموعات لهم حضورهم وهمومهم».
واذا كان رجال الكنيسة يتحفظون عن مناقشة ما تم تسريبه من مضمون التقرير المفترض، فإن أحد العلمانيين الناشطين في الشؤون الكنسية يقول «حتى لو كان وجود هذا التقرير أو محتواه مبالغاً فيه، هل يمكننا أن نمارس دور النعامة وننكر كل ما طفح على السطح من كلام وتساؤلات؟ فإذا آثرنا، في أكثر السيناريوهات تساهلا، عدم التوقف عند الحياة الباذخة لبعض رجال الدين وأسلوب حياتهم الذي يناقض واقع غالبية رعاياهم، فكيف يمكن غضّ الطرف عن مواضيع جوهرية لها انعكاساتها المباشرة على وجودهم وبقائهم في هذه البقعة من العالم؟ فمن يمكنه أن ينكر مركزية الكنيسة وإهمالها الناس في الأطراف؟ أية مشاريع تقدم لهم وتشجعهم للعودة الى قراهم والإقامة فيها؟ تكتفي الكنيسة بالشكوى ورفع الصوت تارة من بيع الأراضي وطورا من تهميش دورها. لكن ماذا تفعل هي في المقابل؟ هل تملك رؤية ومشاريع تعمل على تنفيذها؟ هل لديها استراتيجية لأهداف محددة تراعي فيها اولا مصالح الناس واهتماماتهم وما هو خير لهم؟ أين ترجمة الوعود بتحويل الكنيسة الى دوائر وخلايا عمل ناشطة؟ ماذا عن الدور والرسالة اللذين تتغنى بهما في هذه البقعة من الارض؟ كيف تعكس اهتمامها بلبنان وبناسه مسيحيين ومسلمين؟».
يستكمل مسلسل الأسئلة «كيف تتعاطى الكنيسة مع الطلاب في مدارسها والمرضى في مستشفياتها وحتى مع الموظفين في دوائرها والعاملين معها؟ لماذا صورتها مهزوزة في نظر الشباب؟ وماذا تفعل لتكون كنيسة البشر لا الحجر؟ كيف تسعى الى التشبه بالبابا وطروحاته وإعادة الكنيسة الى بساطة جوهرها ورسالتها؟».
بـ «تقرير أسود» أو من دونه، ما تلهج به ألسنة الناس من سلوكيات بعض رجال الدين وخلافاتهم وصراعاتهم، كما من أساليب عملهم وتقريبهم أصحاب المال والنفوذ وإقصاء الفقراء والمهمشين، والبعد المتزايد عن هموم الناس الفعلية واهتماماتهم، كلها كافية لملء أكثر من تقرير، لا مكان فيه للون الأبيض.