ضمن إطار ورشة الفكر في المحافل الأميركية الفكرية والسياسية يكثر الكلام عن كيفية التعايش مع إيران في أعقاب تمكينها جذرياً ونوعياً بموجب الاتفاق النووي والعلاقة الثنائية الجديدة التي تنوي ادارة أوباما إبرامها. أحد التداعيات الواضحة لإصرار الرئيس باراك أوباما على الصفقة مع طهران هو تقنين الولايات المتحدة في انقسام داخلي لا مثيل له: فريق يركز على أولوية اللاحرب مع ايران ويعتبر ان لا بديل عن الاتفاق النووي حتى لو كان بثقوب وان المصالحة الأميركية – الإيرانية ستطرّي ملالي طهران وتقوّي صفوف الاعتدال وتكبّل المتطرفين وتقوّض مشاريع التوسع الإقليمي الإيرانية. الفريق الآخر يرى ان الاتفاق النووي لن يكبح الطموحات النووية للثيوقراطية الإيرانية، وأكثر ما يحققه هو تأخير تصنيع السلاح النووي لعقد في أقصى الحالات. لكنه يرى أيضاً أن رفع العقوبات عن ايران سيمكّنها عملياً من تنفيذ مشاريعها النووية وهذا سيطلق سباقاً نووياً في منطقة الخليج وسيدمّر نظام منع انتشار الأسلحة النووية. يرى هذا الفريق ان المستفيد الأول ليس قوى الاعتدال وإنما «الحرس الثوري» الذي يرعى مشاريع التوسع الاقليمي من العراق الى سورية ولبنان وكذلك اليمن، ويقوم بتغذية الميليشيات تحطيماً للدولة في هذه البلدان، وفي هذا فهو المرآة لتنظيم «داعش» الذي يتبنى عقيدة تحطيم الدولة في المنطقة العربية لإقامة «الخلافة». الفريق الأول يحتضن فكرة التحوّل الأميركي بعيداً من الحلفاء التقليديين من العرب باتجاه ايران ويرى في ذلك سياسة حكيمة وهو ينطلق من فكر 9/11 ويحمّل العرب مسؤولية ذلك الإرهاب الذي طاول أميركا. الفريق الثاني يذكّر ان العدد الأكبر من الأميركيين الذين قُتِلوا تم قتلهم على أيدي ايران وليس على أيدي الدول العربية مجتمعة ولا حتى على أيدي «القاعدة» و «داعش». ولذلك، يريد بعض أقطاب الفريق الثاني إعادة بناء السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بعد أوباما – ولديهم أفكار تستحق التوقف عندها كجزء من ورشة الفكر الضرورية والتي يجب على المنطقة العربية المشاركة فيها.
تحت عنوان «إعادة تموضع المنطقة العربية في الساحة الدولية بما يتعدى الاقتصاد السياسي والتهديدات الأمنية ستنعقد في شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل ورشة فكر عربية – اقليمية – دولية للتفكير في الخيارات المتاحة والتقدم بتوصيات بناءة ازاء التحديات. «بيروت انستيتيوت» مؤسسة فكرية للمنطقة العربية أسستها صاحبة هذا المقال و «قمة بيروت انستيتيوت» الأولى ستعقد في أبو ظبي لتكون ورشة فكر وورشة فعل ايجابية وعملية. بعض الذين سيشاركون في القمة بدأوا التقدم بأفكارهم. وهنا مثال على الفكر الاستراتيجي كما تقدم به أحد الضالعين في صنع السياسة الأميركية البعيدة المدى.
نقطة الانطلاق هي ان هذا الخريف سيكون موعداً مع الانتخابات الأميركية الرئاسية وان على المنطقة العربية التفكير بتجددية حول الآتي بدلاً من الانصباب على ما يقوم به باراك أوباما. هذا الخريف، على الأرجح، سيكون على المنطقة العربية الإقرار بالواقع الجديد المتمثل بالعلاقة الأميركية – الإيرانية التي صنعها أوباما. وبالتالي، بغض النظر عمن سيكون الرئيس الجديد – ديموقرطياً كان أو جمهورياً – ان السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط بأكملها ستتأثر بالعلاقة الأميركية – الإيرانية وما سيترتب على تنفيذ تفاصيل الاتفاق النووي أو عدم تنفيذه.
رأي الاستراتيجي الأميركي الذي شارك في صنع القرار لعقود هو أن إعادة بناء السياسة الأميركية الشرق أوسطية ما بعد أوباما ليست صعبة قوامها ثلاثة أمور على الرئيس الجديد القيام بها:
أولاً، إعادة إقامة العلاقة التحالفية مع مصر ليس شفوياً فقط هو انما من خلال مضاعفة المساعدات العسكرية الى 3 بلايين دولار سنوياً ودعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي الى البيت الأبيض لتعزيز اتفاقات «كامب ديفيد» ولاستعادة العلاقة التحالفية الدفاعية. هكذا فقط يمكن طمأنة مصر كي لا تستمر في بحثها عن بديل في روسيا. وهذا لا يمكن تحقيقه طالما القيود الأميركية تكبَّل مصر. فمصر رئيسية وأساسية في الحرب على «داعش» بالذات في ليبيا، وهي رئيسية وأساسية للعلاقة الأميركية – العربية سيما ان العلاقة الاستراتيجية بين مصر والسعودية ودولة الإمارات العربية ركيزة ثابتة الآن.
ثانياً، ليبيا تحتاج الى تدخل على نسق تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) دعماً للحكومة الشرعية في طبرق. ترك الأمور في خانة التردد والتقاعس سيؤدي الى انماء «داعش» وغيره من التنظيمات المتطرفة داخل ليبيا وسيهدد جيرانها في المغرب العربي. مواقف السعودية والإمارات ومصر يجب أن تلاقي دعم واشنطن عملياً وفعلياً، ولا مناص من الانقلاب على «حكومة» طرابلس وهزيمة «داعش» في ليبيا. وهذا يتطلب دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يحارب «القاعدة» و «داعش» معاً.
ثالثاً، يجب اتخاذ قرارين سياسيين وعسكريين نحو كردستان: ايفاد مساعدات عسكرية مباشرة الى اربيل وليس عبر بغداد، والإعلان عن عدم معارضة الولايات المتحدة جهود كردستان لتصدير النفط مع الترحيب بنفط كردستان في الأسواق النفطية الأميركية لأن ذلك سيساعد كردستان في تمويل حربها على «داعش».
هذه آراء مخضرم في صنع السياسة الأميركية لمنع التدهور في النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. قد يوافق البعض ويختلف البعض الآخر معها، لكنها أفكار استراتيجية وليست مجرد تشخيص واستسلام. وهذا هو المطلوب: التقدم بأفكار براغماتية لنقل السياسة الأميركية الى عتبة جديدة في أعقاب تحولاتها الأخيرة.
قد يحتج البعض على فكرة تمكين كردستان من الانفصال عن العراق الواردة في طيّات النقلة النوعية في العلاقة الأميركية مع كردستان. واقع الأمر ان المعتدلين هم في السليمانية كما في عمّان، وان مليوناً من الكرد هُجّروا. واقع الأمر ان هناك حاجة لإعادة تقويم الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، فالكرد هم جزء من النسيج العربي شأنهم شأن الشيعة العرب، ولقد حان الوقت لقيام علاقة جديدة نوعية وجذرية مع الاثنين. ومن الضروري تصحيح الانطباع – وربما اصلاح واقع من الماضي – قوامه اعتبار السنّة العرب وحدهم عرباً. فالكرد والشيعة في البلاد العربية هم جزء أساسي من النسيج العربي المتميز بتنوعه من مختلف الأقليات ومختلف الأديان. والمصلحة العربية تقتضي إصلاح هذا الخلل.
المصلحة العربية تقتضي أيضاً التقدم بأفكار عملية على ضوء الاتفاقية النووية وتطوير العلاقة الأميركية الثنائية مع ايران. هناك حاجة ماسة الى تغيير في الديناميكية الاستراتيجية من اليمن الى لبنان.
في اليمن، لا مناص من الاختيار بين استراتيجية الخروج بما يضم الحدود السعودية – اليمنية وبين التصعيد عسكرياً ميدانياً وتأمين عدن والحديدة وتعز مع اجراءات أخرى في صعداء. فإما تأمين المدن والاستيلاء على أراض تكتيكياً، أو الخروج في اطار منظّم مع الجهود الدولية مدعوم بخطة «مارشال» لإنقاذ اليمن اقتصادياً وإنسانياً.
في سورية، للكرد ايضاً مكان في استراتيجية عسكرية جديدة قوامها جمعهم مع القوى المعتدلة. هذا يتطلب بدوره نقلة في كيفية التعامل مع سورية تحتاج الدول الخليجية التفكير فيها ملياً سيما على ضوء رفع العقوبات عن ايران.
الخبراء الاقتصاديون يتحدثون عن «عصر ذهبي» لإيران في أعقاب رفع العقوبات عنها بموجب الاتفاقية النووية. يقولون ان صادرات النفط الإيراني سترتفع من مليون برميل يومياً الى مليوني برميل أي بمبلغ 75 مليون دولار يومياً، أي بقيمة 2.2 بليون دولار شهرياً، وهذا مبلغ كافٍ لإنقاذ مشاريع «الحرس الثوري» الذي سبق له واستخدم موازنة العراق لتمويل حربه في سورية حين جعل نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، وزارة المالية العراقية في خدمة تمويل مغامرات «الحرس الثوري» في سورية.
بعد رفع العقوبات ستتمكن طهران من ضخ الأموال ليس فقط في حربها في سورية وانما أيضاً في «حزب الله» في لبنان، وهذا بدوره سيؤثر جذرياً في مسار لبنان. وبما ان لبنان في فراغ وتعطيل كامل، سيتمكن «حزب الله» من فرض ما يريده عليه. أما «داعش» فإنه سيُستخدم للتبرير لأنه في حرب مع «حزب الله» في سورية. ولذلك، إذا كان للاستراتيجية العربية أن تكون حكيمة عليها ان تولي الانتباه اللازم للبنان قبل فوات الأوان. «داعش» يريد دمشق وبغداد وليس بيروت. انما إذا استُدعيَ، فسيلبي أينما كان – خسارة لبنان على يد «حزب الله» أو «داعش» ستكون خسارة ضخمة للاستراتيجية العربية الضرورية وكذلك للولايات المتحدة بشق أوباما أو بشق من سيليه في البيت الأبيض.
ادارة أوباما لا تريد التنبه لأي «صغير» في سبيلها الى التاريخ المتمثل في الاتفاقية مع ايران – النووية والثنائية، انها في غيبوبة، بقرار منها وليس بغباء.
لكن الولايات المتحدة لا تتوقف عند ادارة اليوم أو ادارة بالأمس. صحيح ان السياسة الأميركية توضع استراتيجياً لمدى بعيد والإدارات المختلفة تنفذ بتغييرها أو بتعديل هناك. لكن السياسة ليست أمراً ثابتاً بعيداً من الوقائع. ولذلك لكل مساهمة في صنع القرار تأثير آني أو بعيد المدى. لذلك، توجد مؤسسات تعمل لسنوات ولعقود لتساهم في صنع القرار.
ورش العمل جزء من ديناميكية التأثير في صنع القرار الاستراتيجي. وهذا ما تحتاجه المنطقة العربية.
الصورة اليوم تبدو قاتمة في اطار الاتفاق النووي مع طهران. آية الله علي خامنئي أملى سبعة شروط تبدو تعجيزية سمّاها «الخطوط الحمر» قد تكون جزءاً من فن التفاوض وقد تؤدي الى افشال المفاوضات النووية برمتها.
منطقياً، اليوم، لا مجال للاتفاق. خامنئي أوضح ان طهران مصرة على رفع العقوبات الدولية والأميركية في حال التوصل الى اتفاق، قبل تدمير ايران البنى التحتية النووية. قال إن لا مجال لتجميد البحوث النووية وممنوع تفتيش المواقع العسكرية منعاً باتاً. أما اعادة فرض العقوبات في حال عدم تنفيذ طهران التزاماتها، فهناك روسيا والصين لضمان رفض العودة الى فرض العقوبات.
سياسياً، يبدو من اللامنطقي الوصول الى هذه النقطة من المفاوضات ثم الخروج منها بفشل.
ما سيحدث مهم، انما الأهم وضع الاستراتيجيات والسيناريوات استعداداً. ومرة أخرى، لا مهرب من ورشة تفكير عربية والآن.