IMLebanon

«مناطق خفض التصعيد» لبوتين أم «مناطق آمنة» لترامب؟

 تستحيل المراهنة على أن تخطو روسيا في سورية أي خطوة في الاتجاه الصحيح، إمّا لانعدام الإرادة في إنهاء الحرب، أو لأن العقل المخطّط يجهل أي وجهة أخرى غير الحرب. ينطبق ذلك على الاتفاق الأخير في آستانة كما على مجمل المقاربة ثم الانخراط الروسيين في الأزمة السورية منذ بدايتها حتى الآن. ولا شك أن آستانة 1 (وقف شامل لإطلاق النار) كان أفضل من آستانة 4 (أربع مناطق لـ «خفض التصعيد»، والمصطلح نفسه يترك الأبواب مفتوحة للتصعيد). كان الأول يعتمد على قدرة روسيا على الالتزام وعلى إلزام حلفائها لكنها تركت نفسها تفشل، أما الثاني فقصد سيرغي لافروف واشنطن لترويجه، أي أن نجاحه يعتمد على الولايات المتحدة. في أفضل الأحوال لا تمانع واشنطن نجاح اتفاق لم تشارك في إعداده، أمّا أن تتبنّاه وتضمنه فمسألة أخرى. وإذا توافرت لدى الأميركيين دوافع «إنسانية» لقبول الاتفاق، وحسابات خاصة لمراعاة الروس، فهل أن لديهم دوافع من أي نوع لـ «شرعنة» الدور الإيراني في سورية أو للمساهمة في عملية تهدف إلى تثبيت أقدام بشار الأسد ونظامه، فقط لأن وجوده في السلطة مريح لروسيا وإيران ولا يحقّق أي مصلحة أميركية؟

تريد موسكو، أو تتوقّع، أن تكون لمواقفها صدقية دولية، إذ تقدمها دائماً باعتبارها مراعية تماماً للقوانين الدولية طالما أنها تتعامل مع «حكومة سورية» لا تزال متمتعة بـ «الشرعية»، أما الدول الأخرى فهي في نظرها مخطئة لأنها مسكونة بهاجس «إطاحة بشار الأسد» أو تغيير النظام، وربما تضيف الآن أن تلك الدول مخطئة أيضاً بعدم اعترافها بـ «فضائل» دور إيران وميليشياتها في سورية. إذاً فكل الصواب عند روسيا، حتى عندما تدعو الفصائل المناوئة لنظام الأسد إلى آستانة فيما تشن طائراتها غارات كثيفة على مواقعها، بل إنها غضبت لأن وفد الفصائل جمّد مشاركته في الاجتماعات حتى يتوقف القصف، ولم توقفه إلا بعدما قدّمت الفصائل صوراً ووثائق تؤكد أن الطائرات المغيرة روسية. ومع أنها تبحث، كما يُقال، عن «بناء الثقة» بين الطرفَين، النظام والمعارضة، إلا أنها تساند قوات النظام وميليشيات إيران في قضمها مناطق في دمشق وحماة حرصت على إبقائها خارج اتفاق المناطق الأربع.

قال مستشار الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية يان إيغلاند، إن لدى المنظمة «مليون سؤال» في شأن ذلك الاتفاق، الذي ينبغي أن تبلور الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، ملايين التفاصيل فيه «بالتوافق». وعلى رغم أن العنوان الرئيسي «وقف الأعمال العدائية» بين «الحكومة» و «المجموعات المسلّحة التي تنضمّ إلى وقف إطلاق النار»، فإن السؤال البديهي المطروح: هل أن «الحكومة» انضمّت فعلاً، وبالتالي كيف تصنّف موسكو الهجمات التي استمرّت وشاركت فيها بعد إقرار الاتفاق؟ وإذا كانت البنود المتعلّقة بمساعدات إنسانية «سريعة»، ومساعدات طبّية وحاجات أساسية «مؤمّنة» للمدنيين، و «إيجاد ظروف مناسبة لعودة آمنة وطوعية للنازحين والمهجّرين»، تُعتبر مناسبة جدّاً لإغاثيي الأمم المتحدة إلا أن سوابق النظام و «حزب الله» وسائر الميليشيات وحتى الروس أنفسهم لا تجعلها مشجّعة على الإطلاق. ويعرف يان إيغلاند عمّا يتكلّم، بعدما اضطر مراراً للتفاوض على كل رغيف خبز وحبة دواء وجرعة ماء، ومع أنه غير معني بالملف السياسي إلا أنه يختلف عن ستيفان دي ميستورا الذي تسلّم مهمته منحازاً تماماً ضد الشعب السوري، ولا يزال يؤكّد هذا الانحياز، وكل شخص في فريقه يتبنّى أجندته.

في مختلف المراحل اتخذ دي ميستورا منحىً تبريرياً لتوليف خطط الروس أو الأسد أو الإيرانيين والإيحاء بأنها مطابقة لقرارات الأمم المتحدة وأهدافها، وهذا ما يحاوله في تسويق الاتفاق الأخير في آستانة. لكنه، حتى اللحظة، لن يجد خبيراً عسكرياً أو أمنياً قادراً على تصوّر تطبيق ميداني سليم لـ «خفض التصعيد»، إلا إذا كان خبيراً في التلفيق، بل إن الدول الثلاث نفسها ليست لديها الطريقة بعد. فخرائط المناطق المعنية بـ «وقف النار» ستُوضع بـ «التوافق» (ولا معايير واضحة) كذلك «المناطق الأمنية» المحيطة بها والحواجز ونقاط الفصل والمراقبة. فكيف تصلح قوات إيرانية (عراقية أو أفغانية أو من «حزب الله»)، مثلاً، لمهمات من هذا النوع لم تُستقدم أصلاً للقيام بها. وإذ ذُكر أنه يمكن الاعتماد على قوات شرطة روسية فهذا يفترض أن موسكو مستعدة لنشر آلاف منها على الأرض مع إدراكها للأخطار في مناطق يعتبرها أهلها قوة احتلال. لكن المطّلعين على متغيّرات التخطيط في روسيا يعتقدون أنها باتت تفكّر بذهنية التدخّل/ الاحتلال طويل الأمد، ولا شك أن هذا يحتاج إلى أكثر من مجرّد قوات شرطة بل يتطلّب تقاسماً للنفوذ مع «شريك الوصاية» الإيراني وثقةً وطيدةً بإمكان التعايش معه.

يفتح الاتفاق نافذة للاستعانة بـ «أطراف ثالثة» لنشر قوات لها حيثما تقتضي الضرورة، لكن إشراكها يجب أن يحظى بموافقتها أولاً وموافقة الدول الثلاث عليها تالياً، و «بالتوافق» أيضاً، لكن الصعوبات ارتسمت على الجانبَين فور طرح فكرة مبدئية لإشراك مصر وقطر، ثم أن إيران أثارت استهجاناً كبيراً حين اقترحت إشراك العراق. ولا بدّ أن أي دولة تُعتبر «مقبولة» سيكون لديها أيضاً أكثر من «مليون سؤال» قبل أن تضع جنودها في موضع استهداف، إذ إن «مناطق خفض التصعيد» مدعوة في الوقت نفسه إلى الفصل (والاقتتال) في داخلها بين المعتدلين والمتشدّدين، وهي غير مستثناة من محاربة الإرهابيين، لذلك يصحّ عمَّن سيتولّى محاربتهم؟ الجواب الواقعي أنها الميليشيات التابعة لإيران تحت غطاء جوّي روسي، أما الجواب «الرسمي» فهو أنها «قوات النظام»، أي أن «الأطراف الثالثة» ستكون مدعوّة لحماية ظهر تلك الميليشيات.

كان الهدف المباشر لـ «مناطق خفض التصعيد» الروسية قطع الطريق على «المناطق الآمنة» الأميركية، طالما أن إدارة دونالد ترامب تأخرت في بلورة أفكارها وخياراتها. لا شك أن اتفاق آستانة وضع واشنطن أمام أمر واقع، فهي لا تريد الاستمرار في التأزيم مع موسكو، ولا مزيداً من التشنّج في العلاقة مع تركيا على رغم حسم أمرها بتسليح الأكراد والاعتماد عليهم في محاربة «داعش». أما الهدف الروسي الآخر للاتفاق فكان تخيير أميركا بين الانضمام إليه أو البقاء في موقع «المراقب»، وكلاهما مرفوض على الأرجح، خصوصاً أن موسكو تهندس مسار آستانة ليطغى على مسار جنيف أو يتحكّم به أو يصبح «بديلاً» منه، وهكذا فمَن يبقى خارج الحل العسكري يفقد مكانه في الحل السياسي. لن تقبل واشنطن هذه اللعبة، ولا تستطيع روسيا الاستفراد بتحديد شروطها بل تجدّد محاولة استدراج أميركا للبحث في صفقة كبرى.

في كل الأحوال ترغب روسيا في تمرير اتفاق آستانة عبر مجلس الأمن، لكن المسألة لن تكون سهلة، فواشنطن لم تتأخر في معارضة وجود إيران كـ «دولة ضامنة»، ليس فقط لأن أحداً لا يصدّق ضماناً كهذا بل لأن قبوله دولياً سيقونن بمفعول رجعي مجمل دور إيران وميليشياتها ولكل الجرائم وأعمال التخريب وحملات التهجير القسري والتطهير المذهبي التي ارتكبتها. وبمعزل عن تركيا، التي تكثر مؤشّرات انغلابها على أمرها، فإن روسيا وإيران لا تتعاملان مع نظام الأسد على أنه طرف مثله مثل فصائل المعارضة بل كأنه «الدولة الرابعة الضامنة» والمطلوب أيضاً قوننة كل جرائمه. فما كانت روسيا وإيران لتستطيعا ادعاء أي «شرعية» لوجودهما في سورية لولا النظام، وبالتالي فإن اعتراف مجلس الأمن بـ «الدول الضامنة» – إذا حصل – سيكون امتداداً لاعترافه بـ «شرعية» النظام. بطبيعة الحال هذا لا يتطابق مع عزم معلن لإدارة ترامب على تحجيم النفوذ الإيراني وإنهاء «حكم آل الأسد»، إلا إذا كان وهماً وليس عزماً.