صحيح أن الأكراد ذاقوا الأمرّين في عهد البعث العفلقي الصدّامي في العراق، لكن التيار العارم المنادي للاستقلال عن العراق بينهم اليوم، لا يختزل في هذه الخلفية المأسوية المرتبطة بمشروع صهر قومي بعثي تعسفي ثم بحملة إبادية. اختزال المسألة إلى «فعل صدّامي» وردّة فعل كردية استقلالية لم تعتمد الاستفتاء إلا بعد أحد عشر عاماً على إعدام صدام حسين صبيحة عيد الاضحى، في مرحلة اختلط فيها «اجتثاث البعث» في بغداد بحملة مذهبية بغطاء إيراني ـ أميركي مشترك لمعاقبة من صاروا يصنّفون «العرب السنّة»، في اختزال تدليسي وأرعن.
ما يخفيه هذا التدليس، انه سواء الاكراد، او العرب السنة كما صاروا يوصفون، يجدون صعوبة بالغة في التأقلم، ليس مع عراق البعث الذي لم يُطح به بالتدخل الاميركي وعودة القوى المعارضة المسلحة من ايران، وانما هو «عراق حزب الدعوة» الذي يجعل اليوم هاتين المجموعتين عصيّتين، كل واحدة على طريقتها، على التكيف مع واقع حال فئوي وأصولي متغلّب في بغداد وفي البصرة، يجتث البعث عن يمنى، ويحييه عن يسرى.
هذا التغلّب الفئوي استهتر بعد إسقاط صدام بألفباء البحث عن عقد اجتماعي جدّي جامع لشمل التعددية القومية والدينية والاقليمية. بدل ان يحاكم صدام على جريمته الكبرى، الانفال، إبادة الاكراد بالكيماوي، حوكم على جريمة لها طابع آخر، انتقامه الهمجي من محاولة اغتياله في الدجيل. بدل ان تكون المحاكمة تعرية لتاريخ صدام حسين تحولت الى مناسبة لإظهاره كصنديد في مقابل محكمة مرتبكة ثم مستعجلة للنطق بالاعدام وتنفيذه. بدل تطعيم الاطاحة بالبعث بالبحث عن مصالحة وطنية بين شرائح المجتمع، كان تبديل الوقائع الديموغرافية بنفس مذهبي سيد الموقف في بغداد والبصرة. بدل البحث عن ارضية لتقاسم متوازن ومعقول للثروات والموارد، كانت حالة فساد شاملة، يتراشق المسؤولون عن تلك الفترة الاتهامات حولها الى اليوم، وتخرج على هامش هذه الاتهامات صورة عن نهب نهم، مخيف، للمقدرات، صورة عن تسليط الميليشيات المذهبية على رقاب الناس. بدل الاكتفاء باجتثاث البعث جرى التعريض بالكيانية الوطنية العراقية. بدل فتح صفحة جديدة مع ايران، على قاعدة احترام الجيرة والاواصر الحضارية والبحث عن مشاريع نافعة للبلدين، جرى الخضوع لنفوذ الحرس الثوري الايراني، وتطويق مرجعية النجف مجدداً، بالعودة للاحتكام سياسياً لمرجعية علي خامنئي. بدل اقامة علاقات متعافية مع الشعب السوري، جرى بعث الميليشيات المذهبية لمحاربته، خدمة لنظام كانت حكومة نوري المالكي اكثر من اتهمه في السابق بتمرير المقاتلين «الجهاديين» وتوجيههم صوب العراق.
هناك في الكثير من الاخذ والرد اليوم على خلفية الاستفتاء خروج عن هذا السياق. كما لو كان الموضوع مطروحاً في آخر الثمانينيات بعد مجازر حلبجة، او بعد فرض منطقتي الحظر الجوي بعيد تنكيل صدام بالانتفاضتين الشيعية والكردية بعد هزيمته في «عاصفة الصحراء». لكنه ليس السياق. السياق هو «ما بعد صدّامي بامتياز»: انه «حكم حزب الدعوة» الذي يحاول الاكراد والعرب السنة في العراق الافلات منه، اياً كان الشكل، المدخل، الاطار، ورغم الشقاق المسؤول عنه البعث قبل اي طرف آخر هنا، بين الاكراد والعرب السنة، وهو شقاق تعوّل عليه حكومة حزب الدعوة، لاحياء كيانية عراقية، بشروط التغلّبية الفئوية، انما تجمع العرب، شيعة وسنة، ضد الكرد. لكنه تعويل ينتمي الى حسابات من زمن آخر، بصرف النظر عن تقييم مسيرة البناء الكياني الكردستاني وأين وصلت بالتحديد اليوم بموجب الاستفتاء، وما هي العوائق التي تعترضها اليوم وغداً.
من لم يستفد من تجربة القتال ضد «داعش» لاعادة انتاج كيانية وطنية رحبة وجدية جامعة لشمل العراقيين، من كان، كمثل نوري المالكي، في ثاني ايام سقوط الموصل بيد «داعش» لا يزال يتوعد اربيل، ويتهمها بالتواطؤ مع «داعش»، تراه اليوم يراهن على المقلب الآخر من منطق «اثنان على ثالث». لكن العراق لا يمكن ان يدار بمنطق ان طرفاً يتغلب فيه ويتداول عند كل عتبة الحلف مع مكون ثان ضد مكون ثالث.
من دون حد ادنى من المراجعة في بغداد. من المراجعة والقدرة على المبادرة .. وكذلك المتابعة، لنفحات استقلالية خجولة عن ايران ظهرت في الفترة الاخيرة، من دون المبادرة لتفاوض جدي على صيغة اتحادية تخرج من استهتارات «اثنان على ثالث»، فإن المسألة لن تقتصر على انفصال الجزء من الكل، بل على تصدع بنيان الكل نفسه، العراق المتبقي، بعد انفصال الجزء.
هل قلتم «اجتثاث البعث»؟ باسمه جرت اعادة احيائه بلون آخر. مغادرة حقبة «حزب الدعوة» هي، في شروط اليوم، أجدى وأنفع، هذا اذا كان يراد بعد الحفاظ على كيان اسمه العراق، سواء خسر تماماً اي رابطة له مع كردستان، أو نجح في إنقاذ الرابطة.. على حساب التغلّبية الفئوية، والانتقامية الجامحة، والبعثية المعكوسة، والتبعية لإيران.