ليس هناك في لبنان انشطار بين فريق يريد ويعمل على عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم وبين فريق يريد ويعمل ضد عودتهم. بهذا المعنى، ليست هناك قاعدة موضوعية لخلاف مستفحل بين اللبنانيين على خلفية مسألة اللجوء السكاني السوري. بناء عليه، تحديد الإطار الذي تدور حوله الإختلافات بين اللبنانيين حيال هذه المسألة يصير واجباً. وحده تحديد هذا الإطار يسمح بترشيد الخوض في المسألة، ليس بتوهّم “نزع التسييس” عنها، فهذه مسألة سياسية بامتياز، وإنما بالتقدم خطوات عملية ايجابية على طريق “مأسسة” هذه المعالجة، بحيث تظهر الدولة اللبنانية وحدتها، وبالأخص وحدتها التنفيذية على هذا الصعيد.
الإختلاف بين اللبنانيين حول موضوع اللاجئين السوريين وكيفية معالجة هذا الملف ليست بنفس جذرية الخلاف بين اللبنانيين حول موضوع الثورة والحرب والتدخل اللبناني بالحرب في سوريا. صحيح أنّه لا يمكن الفصل تماماً بين هذين المستويين، لكنّ ثمة مجالاً لتمييز حقيقي بينهما. في موضوع الثورة السورية، الناس انقسمت في لبنان، بحسب انتماءاتها وحساباتها وانتظاراتها، بين المؤيدين للثورة، وبين المنحازين للنظام، مع مجموعة من التنويعات والحساسيات في كل فئة. وفي ما يتعلّق بتدخّل “حزب الله” أيضاً الناس انقسمت، بين مؤيّد ومسوّغ لهذا التدخل وبين رافض ومندّد. ليس هناك مثل هذا الانقسام حيال موضوع اللاجئين السوريين، وليسوا جميعهم في لبنان من طرف سياسي في سوريا، بل يعكسون التعددية الإنشطارية السورية إلى حدّ بعيد، كما يتفاوت مفهوم اللجوء بينهم، مثلما تختلف المناطق التي لزم عليهم النزوح عنها، وأوضاع هذه المناطق الآن.
هناك، بلا شك، اختلاف بين من يعتبر مرجعية حقوق الإنسان والقانون الدولي أساسية للنظر إلى هذه المسألة، وبين من يعتبر أن المفهوم الوطني للسيادة هو الأولى عليها. كما هناك اختلاف في النظر إلى الآثار الاقتصادية لهذا اللجوء، وان ظهر الى حد بعيد في النقاش اللبناني حول المسألة نوع من الاقرار بأنّ النزوح السوري الى البلد، وبعض الاهتمام الدولي به، حركا الدورة الاقتصادية الى حد ما، المتأثرة بدورها سلباً بنتائج الحرب السورية ككل، في حين أن حجم هذا اللجوء وطابعه المزمن فرضا أعباء هائلة على البنى التحتية اللبنانية من طاقة وسكن ومواصلات، وهي أصلا كانت بنى تحتية بالكاد تفي بالحاجة اللبنانية.
هناك إذاً: 1 – إجماع لبناني على وجوب عودة اللاجئين الى سوريا. 2 – اختلاف حول المرجعية المعيارية لا يُعبَّر عنه بشكل منهجي وواضح (دور مرجعية حقوق الانسان والقانون الدولي، مفهوم السيادة الوطنية وكيفية استحضاره هنا رغم تخلّعه هنا أيضاً بفعل استمرار التدخل لجزء من لبنان بالحرب السورية وبفعل عدم استعادة الدولة لمرجعية قرار الحرب والسلم). النتيجة المتمّمة لهذا هو الإختلاف حول مفهوم العودة. فمن جهة ثمة من يشدّد على “العودة الآمنة”، ويبقى تحديد أوسع لهذا المفهوم، في فترة لا يبدو فيها “الحل السياسي” للكارثة السورية على قاب قوسين، أبداً. وثمة من جهة أخرى من يشدّد على “التفاوض مع الدولة السورية”، أي مع النظام المسؤول بالنسبة لكثير من اللاجئين عن مأساتهم، لكن الذي يواليه، في مفارقة أخرى، قسم آخر من الذين تركوا سوريا باتجاه البلاد المجاورة. ثمة بالنهاية، لاجئون بسبب شراسة النظام وجرائمه. ولاجئون بسبب المجموعات المسلحة المناهضة للنظام. لكنّ ثمة كذلك لاجئين بسبب الحرب ككل.
يحتاج البلد بالفعل إلى مؤتمر وطني للخروج بتحديد للإطار بشكل منهجي أكثر، وتجسير الخلافات بين اللبنانيين حيال هذا الموضوع، كونه يختلف عن الموضوعات التي يكون فيها الاختلاف عميقاً أكثر. في هذا الموضوع تحديداً هناك إجماع لبناني لا ينبغي تضييعه أو المكابرة عليه: كل اللبنانيين يؤيدون عودة اللاجئين السوريين الى بلادهم. كذلك اللاجئون، الافتراض المنطقي والواقعي الأسلم هو أنهم يريدون العودة الى سوريا. لا يمكن للبنان أن يبدّل كل الأوضاع في سوريا كي يعود اللاجئون اليها، لكن هناك حد أدنى من الأسباب التي دفعت بهؤلاء الى ترك مدنهم وقراهم باتجاه لبنان، ولا يمكن المكابرة عن مقاربة هذه الأسباب كما لو أنها “لا تعنينا”، فهذا لا يساهم كثيراً في إنضاج الحلول العملية، كما ان هذه الحلول العملية لا يمكن أن تكون سحرية. ثمة “مؤشر” ينبغي العمل على بلوَرته: هل يميل معدل اللجوء السوري الى لبنان للانخفاض شهراً بشهر أم لا؟ ما هي حصيلة تجربة العودة بأشكالها المختلفة في الأشهر الماضية؟ من تحديد هكذا أسئلة عملية يمكن الإفلات من مغبّة الانقسام حول موضوع هناك فعلاً قاعدة تلاقٍ موضوعية لبنانية حوله.