إذا كانت غايةُ تأخيرِ إعادةِ النازحين السوريّين إلى بلدِهم اسْتِدرارَ أموالِ الدولِ المانِحةِ وتشغيلَ النازحين، فهذه جريمةٌ إنسانيّةٌ بحقِّ النازحين لا تَقِلُّ عن جرائمِ الحربِ في سوريا. وإذا كانت غايتُه استجابةَ رغبةِ الدولِ الأجنبيّةِ المتآمِرةِ على شعوبِ الشرق، فهذا تواطؤٌ على مصلحةِ لبنانَ والشرق. وإذا كانت غايتُه استخدامَ النازحين ورَقةَ تفاوضٍ في النزاعِ مع النظامِ السوري، فهذا اتجارٌ بالبشرِ وخرقٌ لحياديّةِ لبنان يَفوق مشاركةَ حزبِ الله في الحربِ السوريّة. وإذا كانت غايتُه التلاعبَ بالديمغرافيا اللبنانيّةِ والعودةَ إلى العدِّ بين الطوائفِ والمذاهبِ بُغيةَ تغييرِ النِظام، فهذه خيانةٌ للحياةِ الميثاقيّة.
بعيدًا عن الاتّهامات بالجُمْلة، عودةُ النازحين السوريّين باتَت الآنَ أمامَ خِيارين وآليَّتين. الخِياران هما: تأمينُ العودةِ من خلالِ العملِ مع المجتمعِ الدوليِّ، أو من خلالِ التفاوضِ المباشَر مع النظامِ السوريِّ. رغمَ أنَّ أَحلى الخِيارين مُرٌّ، يُفترضُ بالدولةِ اللبنانيّةِ أنْ تأخُذَ الخِيارَ الذي يعيدُ النازحين سريعًا من دونِ أيِّ اعتبارٍ سياسيٍّ؛ فأسوأُ خِيارٍ يبقى أفضلَ من بقاءِ النازحين بسببِ الخلافِ السياسيِّ على الِخيار.
أما الآليّتان فهُما: عودةٌ فوريّةٌ وآمِنةٌ، فتستعيدُ سوريا شعبَها الـمُشتَّت، أو عودةٌ طوعيّةٌ متأخِّرةٌ، فيحتَفِظُ لبنانُ بالنازحين السوريّين وديعةً استيطانيّةً في إطارِ صفقةِ العصرِ الأميركيّة التي لا تقتصر، بالمناسبةِ، على القضيةِ الفلسطينيّةِ، بل على مُجمَل قضايا الشرقِ الأوسط، بما فيها «الترانسفير» السكانيّ (مؤتمرِي الصحافي لإعادةِ النازحين ـــ 17 أيلول 2015)..
بين سنتَي 2015/2019، جَرَّبت الدولةُ اللبنانيّةُ الخِيارَ الدوليَّ وشاركَت في ستةِ مؤتمراتٍ حولَ النازحين السوريّين في نيويورك ولندن وباريس وبرلين والكويت وبروكسل. نتيجةُ تجربةِ الِخيارِ الدولي، بما فيه مؤتمرُ بروكسل (13/14 آذار الجاري) أتت سلبيّةً حيث ربَطت الدولُ المانحةُ عودةَ النازحين إلى سوريا بالحلِّ السياسيِّ هناك، واكتفَت بوعودٍ بتقديمِ مساعداتٍ إلى النازحين لتأمينِ حُسنِ إقامتِهم في لبنانَ والأردن والعراق وتركيا ومصر. بتعبير آخَر: لم يَعتمد مؤتمرُ بروكسل حتّى الآليّةَ الطوعيّةَ لأنّه انطَلق من مبدأِ كيفيّةِ دَمجِ النازحين بالمجتمعاتِ المضيفَة، لبنانَ ضِمنًا، لا من مبدأِ إعادتِهم إلى بلادهم.
لم تَختبِر الدولةُ اللبنانيّةُ بَعد ـــ على الأقلّ رسميًّا وعلنيًّا ـــ نيّاتِ النظامِ السوريِّ حيالَ مدى جُهوزيّتِه لاستعادةِ مواطنيه النازحين سريعًا وضمانِ أمنِهم. إنّها فرصةٌ ذهبيّةٌ لأصحابِ خِيارِ التفاوضِ مع سوريا ليُبيّنوا أنّهم يَنجَحون مع النظامِ السوريِّ حيثُ فَشِلَ الآخَرون مع المجتمعِ الدولي. هكذا، عوضَ أن يستمرَّ بعضُ المسؤولين اللبنانيّين بالتسلُّلِ إلى دمشق من دونِ تكليفٍ رسميٍّ، والإعلانِ من دونِ وَكالةٍ أنَّ عودةَ النازحين تُحتِّمُ تطبيعَ العَلاقاتِ مُسبقًا مع النظامِ السوريّ، فلتبادِر الدولةُ إلى تكليفِ وفدٍ سياسيٍّ/أمنيٍّ رسميٍّ رفيعِ المستوى السفرَ إلى سوريا ولقاءَ الرئيسِ بشّار الأسد لمعرفةِ حقيقةِ الموقفِ السوريِّ الفعليّ ـــ لا الإعلاميّ ـــ من عودةِ النازحين.
في حال التزمَ الرئيسُ الأسد بمشروعِ استعادةِ النازحين وأعطى الضماناتِ الأمنيّةَ للعائدين، تُـتَّخذُ الإجراءاتُ الفوريّةُ التالية: 1 ـــ تؤلَّفُ لَجنةٌ لبنانيّةٌ/سوريّةٌ مشترَكة لتَضَعَ في خلال شهرٍ الآليّةَ التنفيذيّةَ مُرفَقةً بجدولٍ زمنيٍّ للعودةِ لا يَتعدى السنةَ. 2 ـــ تُقرّرُ الدولتان اللبنانيّةُ والسوريّةُ مساحةَ دورِ روسيا (وغيرِها) في الإشرافِ على تنفيذِ العودةِ نظرًا للوجودِ الروسيِّ الفاعلِ في سوريا. 3 ـــ يُطالبُ لبنانُ الدولَ المانحةَ بتمويلِ «اتفاق العودة»، إذ لا يَستطيعُ المجتمعُ الدوليُّ، قانونيًّا وأخلاقيًّا، رفضَ دعمِ هذا الاتفاقِ الثنائيِّ المضمون طالما لم يُؤمِّن هو عودتَهم بوسائلَ أخرى.
إنَّ معارضِي تطبيعِ العلاقات مع النظام السوريِّ سيجدون صعوبةً في معارضةِ هذا الإنجازِ العظيمِ في حال حصوله. لكن، هل تُفاجِئُنا سوريا وتُستجيبُ للمبادرةِ اللبنانيّة، أم ستراوِغُ لتَزيدَ الشرخَ بين اللبنانيّين من جهة، وبينَهم وبين المجتمعِ الدولِّي من جهةٍ أُخرى؟
الأرجحُ، بل المؤكَّدُ أنَّ النظامَ السوريَّ سيُعلن استعدادَه لاسترجاعِ نازحيه من دون أنْ يَسترجِعَهم. فما خاضَ النظامُ هذه الحربَ الطويلةَ ليُعيدَ كلَّ شيءٍ كما كان قبلهَا. وما أَجرى هذا الفرزَ السكانيَّ الطائفيَّ ليعيدَ التركيبةَ الديمغرافيّةَ السوريّةَ إلى سابقِ عهدِها. وفي الـمُحَصِّلةِ، إنَّ موقفَ النظامِ السوريِّ من مشروعِ عودةِ النازحين يلتقي مع موقفِ المجتمعِ الدوليِّ، من حيثُ ربطُ العودةِ بالتسويةِ النهائيّةِ للحرب.
إذا كانت حساباتُ لبنانَ بشأنِ النازحين لبنانيًّةً صِرْفةً، فحساباتُ النظامِ السوريِّ مُتشعّبةٌ. وما لَم يُقدِّمْه الأسدُ لروسيا في مبادرتِها لعودةِ النازحين، وهي التي أَنقذَت نظامَه، لن يُقدِّمَه للحكومةِ اللبنانيّةِ المنقسِمةِ حيالَ التعاطي معه. رغمَ كلِّ الضُعفِ الذي أصابه، لا يزال النظامُ السوريُّ يَعتبرُ نفسَه لاعبًا إقليميًّا محوريًّا على غرارِ ما كان عليه قبلَ سنةِ 2011، ولا يزال يَتعاطى مع لبنانَ كأنَّ مخابراتِه في «البوريفاج» وعنجر وجيشَه موجودٌ في بلادِنا.
لنْ يقبلَ النظامُ السوريُّ إعادةَ نحو ستّةِ ملايينَ سُنٍّي إلى سوريا قبلَ أن يتأكّدَ من المعطياتِ التالية: 1) مصيرُ النظامِ ونيّاتُ الدولِ الكبرى حيالَ وِحدةِ الأراضي السوريّة. 2) الحصولُ على اعترافٍ عربيٍّ ودوليٍّ نهائيٍّ بالنظام. 3) التزامُ المجتمعِ الدوليِّ بتمويلِ إعادةِ إعمار سوريا. 4) استئنافُ المفاوضاتِ مع إسرائيل حولَ الجولان ومعرفةُ موقعِ سوريا في صفقةِ العصرِ. 5) مشاركتُه في صناعةِ القرارِ اللبنانيِّ بحيث تكونُ له كلمةٌ مؤثِّرةٌ في اختيارِ رئيسِ جمهوريّةِ لبنان المقبِل.
لذلك إنَّ الرهانَ على قَبولِ النظامِ السوريِّ طوعيًّا عودةَ النازحين هو رهانٌ غيرُ آمِن، لكن، لا بد من وضع النظام أمام الاختبارِ ليتأكّدَ المطالِبون بتطبيعِ العَلاقاتِ معه بأنَّ التطبيعَ ليسَ طريقَ رجوعِ النازحين إلى سوريا، بل طريقَ عودةِ سوريا إلى لبنان.
تجاه هذا الواقعِ/المأزِق، يَجد لبنان نفسَه أمام خيارين آخَريْن: السعيُ للمزاوجةِ بين المبادرتَين الروسيّةِ والدوليّةِ فتُعطي روسيا ضماناتٍ أمنيّةً لعودةِ النازحين ــــ وهي قادرةٌ على إعطائِها ــــ وتُقدِّمُ الدولُ المانحةُ الأموالَ لإسكانِهم، وذلك في إطارِ تبادلِ مصالحَ أميركيّةٍ/روسيّةٍ/أوروبيّة. وإمّا الاتّكالُ على الأجهزةِ الأمنيّةِ اللبنانيّةِ ومؤسّساتِ الرعايةِ الإنسانيّة، فيَتِمُّ تجميعُ النازحين في قوافلَ ويُرسلون إلى الحدودِ السوريّة. الّلهم أَشْهَدُ أنّنا بَلّغْنا.