شعوب ومجتمعات عدة في المنطقة العربية تلقّت أنباء الحراك الشعبي في إيران بكثير من الترقّب والقلق والأمل. في الحدّ الأقصى أن يفضي الحراك إلى تغيير النظام ولو بعملية طويلة زمنياً، تغيير مطلوب إنسانياً وأخلاقياً بمقدار ما هو مطلوب سياسياً. وفي الحدّ الأدنى أن يشغل الحراك النظام في الداخل ويؤدّي إلى تغيير في طبيعته وعقليّته وسلوكه، فيدرك خطورة اشتعال النار في بيته ويقلّص تدريجاً من شروره في الخارج. لكن الحقيقة التي تجدّدت هي أن هذا النظام كان نجح أولاً في صنع أدواته الميليشيوية ونجح تالياً في استخدامها لقمع شعوب إيران بالقوة ولإخماد أي صوت معارض، وفي الوقت ذاته كان يستنسخ أدوات مماثلة في بلدان أخرى لتؤدّي الدور القمعي ذاته، بل لتؤسس جيوشاً بموازاة الجيوش وتقيم دولاً داخل الدول.
بعيداً من المعلن الذي نادراً ما يطابق المضمر، وضع الحراك الشعبي أمام العراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين، الواقعين مباشرة تحت الهيمنة الإيرانية على اختلاف انتماءاتهم، احتمالات وحسابات غير متوقّعة، متخبّطة السلبيات والإيجابيات، لكن بات من الواجب عدم استبعادها. فالتظاهرات الراهنة قد تكون مجرّد إرهاصات، كما كانت قبلها حراكات تسعينات القرن الماضي و «الثورة الخضراء» عام 2009، وقد لا تطول الفترة بين ما يحصل اليوم وما يفترض (منطقيّاً) أن يحصل لاحقاً.
لماذا: «منطقياً»؟ لسببين: أولاً، لأن الإيرانيين يعيشون، كما العراقيون والسوريون واليمنيون واللبنانيون وغيرهم، بانطباع مقيم هو أن هذا النظام مرحلة عابرة لا يمكنها أن تستمر أو تدوم، على رغم أنه قارب بلوغ عقده الرابع، ليس فقط لأن الملالي باشروا عهدهم حكاماً مستبدّين ثم غدوا فاسدين إلى حدّ أن يجهر الشعب بأنهم يأخذون من قوته ليصنعوا لهم أمجاداً في الخارج، بل خصوصاً لأنهم رجال دين يدّعون بأنهم مختلفون عن الأنماط المعروفة من الحكام أو حتى من المستبدّين، عسكريين أو مدنيين في خدمة العسكر، لكن تطبيقهم للدين والدولة والثورة غلّب عليها الإرهاب والترهيب وجرّدها جميعاً من أي أهداف إنسانية سامية. وثانياً، لأن السياسات التخريبية لهذا النظام بلغت أقصاها، في الداخل حيث تستطيع دولة غنية إفقار شعبها وتعجز عن تلبية حاجاته، وفي الخارج حيث تشعل حروباً وتقسم مجتمعات وتساهم في تفكيك دول وتدمير اقتصادات…
هذه السياسات اقتربت من مرحلة الاستحقاقات أو تكاد تبلغها. فمعظم الأزمات الإقليمية التي استثمرت إيران في صنع مآسيها تدنو من نهاياتها، وبعدما صعد الخط البياني لـ «انتصاراتها» إلى ذروته لا بد أن يبدأ الهبوط. لكن «نظام الملالي» موقن بأنه أسّس في البلدان الأربعة التابعة له أوضاعاً تبعد منه كؤوس الهزائم المرّة، ذاك أن ميليشياته جعلت منه متدخّلاً داخلياً ومحليّاً بحكم اعتماده على الرابطة المذهبية. وباستثناء سورية، فإن أي حديث عن «انسحاب إيران» لن يكون واقعياً، لأنه سيعني طلب انسحاب «حزب الله» من لبنان، والحوثيين من اليمن، وميليشيات «الحشد» من العراق. في أحسن الأحوال يمكن السعي إلى نزع سلاحها، ما سيفجّر نزاعات داخلية مؤكّدة، وفي أسوأ الأحوال يمكن العمل على استيعابها ودمجها، ما سيجعل الجيوش وقوى الأمن «الوطنية» مخترقة ومهددة بالانقسام، وبالتالي يقلّل من هيبتها وفاعليتها، تحديداً لأن المدمجين مشكوك في ولائهم ووطنيتهم.
حتى بالنسبة إلى سورية حيث يعامل الإيرانيون النظام على أنه ميليشياهم الخاصة، كان «رحيل الأسد» مطلباً شعبياً يقلق نظام طهران، لكن تقلّبات الحرب أفضت إلى توافق روسي – إيراني على «بقاء الأسد». وعلى رغم تفهّم الموقف الدولي لهذا «التوافق» إلا أنه لم يعنِ في أي حال قبولاً غير مشروط باستمرار الأسد في الحكم، كأن شيئاً لم يكن، وعداً أن بقاءه بات مكلفاً لحلفائه إلا أنه غير محسوم نهائياً. فبعد إفشال مفاوضات جنيف، وقبل الانتفاضة الشعبية الإيرانية، كان نظام الأسد مطمئناً إلى أن الروس والإيرانيين متكفّلون تعطيل أي «حل سياسي» يجتزئ من صلاحياته، كونهم مستفيدين من تفرّده بالسلطة. لكنه تلقّى إنذارات إسرائيلية وأميركية جعلته يخشى تدفيعه ثمن أي مواجهة إقليمية قد يذهب الإيرانيون إليها دفاعاً عن وجودهم في سورية، أي إنهم باتوا عنصر تهديد للمكاسب التي حصّلها بفضلهم. من هنا، إن نظام الأسد قد يكون الأكثر تحسّساً لتأثير تلك الانتفاضة، ومع أنها لم تهدّد حليفه الإيراني إلا أنه يتخوّف من ارتباط أي مواجهة إيرانية – إسرائيلية مستقبلاً بتجدّد الحراك الشعبي على نحو يربك النظام فعلاً. وهذا احتمال وارد.
ثمة حسابات مماثلة، لكن أكثر تعقيداً في العراق حيث انتهى الجانب الأهمّ في الحرب على «داعش» لتتواصل مطاردة فلوله، ولتعود التحديات الهائلة إلى واجهة الاستحقاقات: تثبيت مكانة الدولة، إعادة إعمار المناطق التي دمّرتها الحرب، توطيد الأمن، تفعيل الاقتصاد والخدمات… وكلّ ذلك يتطلّب موازنات غير متوافرة، ويحتاج إذاً إلى مساعدات وقروض قد تتوافر، لكنها تحتاج أيضاً إلى عنصرين أساسيين: استقرار سياسي وإدارة شفافة وحازمة تمنع الفساد من التهام الموارد. لا يقتصر الفساد على فئة واحدة مستفيدة، أما العقبة الرئيسية أمام الاستقرار فهي إيران وميليشياتها، وإنْ لم يعترف أحد بذلك علناً. لا شك في أن نهاية «داعش» عزّزت مكانة الجيش وقوة مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية ودورها في الدفاع عن الدولة، كما أن أداء رئيس الحكومة حيدر العبادي يحظى بمقدار جيّد من الثقة في الداخل والخارج لكنه غير كافٍ بعد لتمكينه من طرح المبادرات الضرورية واللازمة لفتح صفحة جديدة في البلاد. لذلك، يراقب العراقيون الانتفاضة الإيرانية بمشاعر ملتبسة ومن دون أوهام، فثمة فرص للعراق إذا انشغلت طهران بحالها وخفّت وطأتها عليه. لكن العبادي الراغب في أن يكون رجل دولة، يعرف أن حزبه (الدعوة) ملتزم رغبة إيران في تأجيل قيام دولة مقبولة من الجميع في العراق.
في أي حال تلتقي الميليشيات التابعة لإيران على مواصفات مشتركة أهمها توظيف الدولة والاستفادة منها فابتزازها ثم استعداؤها فتهميشها والاستعلاء عليها وصولاً إلى تطويعها أو تفكيكها لـ «إعادة تأسيسها» وتقريبها، ما أمكنها ذلك، إلى الولاء للمرشد/ الولي الفقيه. فإذا صارت الدولة تحت رحمة الميليشيات، وولاء الميليشيات للمرشد، يرتبط مصيرها بهذا الولاء أياً تكن التعددية في مجتمعها. على ذلك، فقد يبدو نموذج «حزب الله» اللبناني هو الأمثل بمفاهيم إيران للهيمنة والنفوذ والاستحواذ على الدولة، خصوصاً أنه نشأ على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يشوّه صورته بالتغوّل على مواطنيه، وقبل أن يفسد سمعته بسفك الدم السوري. إلّا أن النموذج الحوثي يبدو أكثر تجسيداً لنزعة العبث الإيراني، سواء بهمجيته وتهوّره واستهزائه بالمعايير والأعراف أو باستسهاله القتل والنهب، والأهم أنه مضى في التخريب إلى الحد الذي أدهش أسياده. وإذ قدّم هذان النموذجان تضحيات كبيرة ولاءً للمرشد، فلا بدّ أنهما صدما بأن يكون إلغاء ولاية الفقيه من الدستور أحد أبرز مطالب الحراك الشعبي الإيراني.
مضى شباب إيران الغاضبين أبعد من جميع الاعتبارات الخارجية التي افترضها النظام في رواية «المؤامرة» وأخفق في ترويجها، بل أكثر جدية من استغلالات دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو حراكهم. ولعل التعبير الأمضى في انطلاقتهم أنهم أسقطوا في زمن قياسي كثيراً من الرموز، فلم يتملّقوا للمرشد ضد الرئيس أو العكس بل تجاوزوهما، ولا راهنوا على دعمٍ من هذا الفريق أو ذاك بل كشفوا منذ اللحظة الأولى توزّع الأدوار والوظائف بين المحافظين والمعتدلين والإصلاحيين وما بينهم من تماهٍ. بالتالي، حتى لو نجح النظام في احتواء هذه الانتفاضة وإخمادها فإنها منذ صرختها الأولى قادته إلى الانكشاف وجهرت بكل شيء. فهذا نظام قد يكون حقق نجاحات في الخارج لكنه يجوّع شعبه، وقد تكون جرائم ميليشياته بنت له نفوذاً لكن قلب إيران وروحها يتهرّآن ويتأكلان، وقد يكون زيّن لنفسه أنه أقام «إمبراطورية»، لكنه حين يصحو من نشوته سيجد أنها مجرّد «إمبراطورية خيالية» تعوّل في استمرارها على «الحوثيين» وأمثالهم.