أيّ دور للبنان مع تصاعد كرة اللهب في المنطقة؟
{ حمدان: الحياد يحمينا { عتريسي: ثابتة الجغرافيا
عند كل تطور إقليمي جديد، يعود الحديث عن ماهية دور لبنان فيه كانعكاس واضح لطبيعة الاصطفاف السياسي بين قواه المختلفة.
كان الأمر كذلك في مختلف التطورات الخطيرة التي مرّت على المنطقة والتي طرحت طبيعة الدور الذي على لبنان الاضطلاع به، وما إذا كان عليه الانخراط في ما يحدث أو الاكتفاء بدور المراقب حفظا للوحدة الوطنية ولاستقرار هو هشّ في الأصل.
وبينما استبشر اللبنانيون خيرا بولادة حكومة جديدة مع تكليف حسان دياب مهمة تشكيلها، على أن تعكس ما حدث من زلزال شعبي مع اندلاع أحداث 17 تشرين الأول الماضي، جاءت التطورات الإقليمية من الباب العراقي لتفجر التناقضات بين محورين رئيسيين في لبنان والمنطقة، محور المقاومة أو الممانعة، ومحور الإعتدال وتحييد لبنان عن الصراعات، ما يهدد عملية تشكيل الحكومة لا بل الوحدة الداخلية وقد يعيد الأمور الى نقطة الصفر.
نأي بالنفس أو انخراط في الصراع؟
اليوم، يُطرح السؤال الجوهري: كيف سيُقارب لبنان ومقاومته التطورات بعد عملية الاغتيال الأميركي للقادة الإيرانيين والعراقيين في بغداد؟ هل عليه التدخل والاضطلاع في ما يحدث أو يجب أن ينأى بنفسه وأن يحيّد نفسه عن التطورات؟ وما هو مصطلح التحييد أصلا الذي بات محط جدل؟ وهل يشمل قضية العرب الأولى، أي فلسطين؟ وقبل كل شيء، ما هو الحياد؟
«إنه مبدأ سياسي عام وهو مصطلح مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان وغيرهما من المفاهيم»، يقول السفير الدكتور هشام حمدان الذي يلفت الى أن لكل بلد في العالم أن يأخذ هذا المبدأ كما يناسبه ووفقا لمصلحته.
السفير السابق الدكتور هشام حمدان
والواقع أن حياد لبنان ليس خارجا عما ذهبت إليه بلدان كثيرة في العالم، لكن خصوصيته تأتي من كونه يقع على تخوم بلد عدو مثل إسرائيل، ما قد يدفع البعض الى اتهام هذا المفهوم بكونه يشكل هرطقة قومية وربما دافعا الى التطبيع مع العدو. لكن حمدان يوضح الموضوع على الشكل التالي: المقصود بالحياد ألا نكون شركاء في الصراع الاسلامي الاسلامي والعربي العربي، وليس المقصود على الإطلاق العداء لإسرائيل وهذا أمر محسوم لدينا.
ويبدو من الأهمية بمكان إيضاح هذه النقطة التي قد يتقصد البعض استغلالها في سبيل الإساءة الى مؤيدي الحياد الذي يؤكد مؤيدوه مثل حمدان أن «العدو الصهيوني يستهدفنا جميعا ويفيد من انقساماتنا». هنا بالذات، ينطلق حمدان في شرح أهمية النأي بالنفس عما يحدث في المنطقة اليوم، فهذا العدو الذي تقف وراءه قوى كبيرة مثل الكنيسة الانجيلية التبشيرية في الولايات المتحدة يريد تعميق انقساماتنا التي تتعزز عبر توريطنا في الصراعات في سبيل إلهائنا عن قضية فلسطين.
بالنسبة إليه، ليس على لبنان، الوطن الصغير «أن يكون في إطار محوري ندفع ثمنه كل يوم، بل ينبغي عليه أن يكون موئلا للحوار». ويعطي مثالا في الموضوع السوري الذي ما كان على أي طرف لبناني الانخراط فيه، وهو يعني بالطبع «حزب الله» في هذا الأمر وغيره ممن شارك في القتال في سوريا.
يأتي الخبير في الشأن الإيراني الدكتور طلال عتريسي، ليفند وجهة النظر هذه بكثير من الرويّة. هو ينطلق بمقاربته من مسلمة رئيسية يطرح عبرها السؤال الأهم: هل في إمكان لبنان، حتى لو أراد، النأي بنفسه أو الحياد عن قضايا المنطقة؟
الدكتور طلال عتريسي الخبير في الشؤون الإيرانية
الأمر محسوم بالنسبة الى عتريسي. الجغرافيا تفرض نفسها هنا شئنا أم أبينا وإسرائيل تتربص بلبنان وتهدده يوميا. هو لا ينكر أن لوجهة النظر الأخرى مؤيدين، ولا يشكل ذلك سوى دليلا على ما يذهب إليه: هناك اتجاه يدعو الى النأي بالنفس لحماية لبنان من تداعيات ما يحدث، ويدعو الى مفاوضات بعيدا عن الصراع، وهذا دليل على أن كل من في لبنان ينتمي الى وجهة نظر ترى ماهية دور لبنان في ما يحدث، فأين النأي بالنفس؟
والواقع أن الخلاف الأكبر بين وجهتي النظر في البلاد يُختصر بالموضوع السوري، ويشرح حمدان: مهما رفعنا من شعارات، فإننا قاتلنا هناك إخوة لنا. ويوضح: لا أود إدانة أي طرف، لكن ما كان يجب علينا التدخل في أمر يعني الشعب السوري.
من ناحيته، يرى عتريسي الأمور مترابطة في المنطقة، إذ أن تداعيات الانقسام والانهيار السوري لا شك سوف ترتد سلبا على لبنان. ويعطي مثالا بسيطا على تشابك المشهدين السوري واللبناني انطلاقا من مسألة النازحين البالغة الأهمية والتي ترتد سلبا على لبنان باعتراف الجميع، ويسأل: هل يعني النأي بالنفس مثلا عدم عودة النازحين السوريين الى بلدهم بحجة أنهم سيصطفون انتخابيا الى جانب الرئيس بشار الأسد؟ كيف سنحل هذه القضية؟ ما هي الطروحات العملية؟ الأمور مترابطة شئنا أم أبينا.
ماذا الآن؟
من المنتظر أن يتعمق الخلاف بين هاتين النظرتين مع تصاعد كرة اللهب في المنطقة. عندها، سيكون طرح السؤال الكبير حول ماهية دور لبنان بالغ الأهمية.
لا يختلف حمدان وعتريسي حول دقة المرحلة، ويبدي الأول قلقه لناحية الاصطفافات مع الآخرين في المنطقة. مؤدى منطقه بأن الدول الكبرى ذات مصالح خاصة بها، «قد تتقاطع معنا مؤقتا، لكنها على المدى الطويل، لن ترضى بقوة إسلامية كبرى في المنطقة، وهو شأن مشترك بين جميع الكبار». هو يعتبر أن الكبار يبدون القلق باستمرار، وإن أخفوا ذلك، من صعود إمبراطوريات إسلامية هامة في المنطقة مثل إيران وتركيا، والهدف كان ويبقى «تفتيتنا وإنهاء قضيتنا فلسطين».
لذا، يجب على لبنان والعرب التنبه مما يحدث في المنطقة إذا تصاعدت كرة النار، وعلى بلدنا أن يلتزم الشرعية الدولية كون ما حدث تم على أرض عراقية وكان الهدف إيرانيا، من هنا، ليس من حقنا التدخل، حسب حمدان الذي يطرح في المقابل أن يؤدي لبنان دوره، كعضو في الجامعة العربية، في مساندة العراق في الدفاع عن سيادته. وهذا رأي يجمع عليه الكثير من الاطياف اللبنانية الذين يطالبون بعدم التورط في صراع مسلح لا شأن للبنان به، ولكن، في المقابل، على لبنان ممارسة دوره القومي في مواجهة الغطرسة الأميركية التي اخترقت سيادة العراق.
لكن الأمر مختلف كليا بالنسبة الى عتريسي الذي لا يحسم بالمدى الذي قد تتخذه الأمور المفتوحة على سيناريوهات عديدة. وهو يعتبر انه إذا قدر للأمور أن تذهب الى تصعيد محدود في إطار الاقليم، فإن لبنان لن يكون جزءا من هذا الحدث. لكنه يستدرك: أما إذا تطور الأمر الى درجة اندلاع الحرب الإقليمية في المنطقة، فسنكون حينها جزءا من المعركة الكبرى. هنا بالذات تحضر ثابتة الجغرافيا التي تحدث عنها عتريسي والتي ستفرض نفسها حينها لا محالة على لبنان..
والواقع أن عتريسي يترقب مبلغ التدخل الاسرائيلي الذي سيكون حاسما على هذا الصعيد، ويقول كثيرون أن التدخل العسكري الاسرائيلي سيطرح مستقبلا معادلة جديدة قد لا يكون «حزب الله» في وارد دخولها في اللحظة الحالية، ما سيفتح باب الأسئلة مشرعا أمام سيناريوهات مختلفة، تتقاطع على خطورتها ورسمها لمستقبل المنطقة.
لكن، بين وجهتي النظر حول دور لبنان ومقاومته إزاء ما حصل وما تخبئه الأيام، سيكون مطلوبا من جميع اللبنانيين، على اصطفافاتهم المختلفة، تحصين وحدتهم واستقرار بلدهم في الوقت الذي سيستمر الإنقسام العميق حول دور لبنان في الصراعات وسيتعزز مع كل حدث جديد.