IMLebanon

مستقبلُ العرب رهن فهمِهم للتَّغيُّرات في الخريطة الجيوسياسيَّة الإقليميَّة

 

زار لبنان مؤخرا الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير حسام زكي بصورة مفاجئة وبتكليف شَخصي من الأمين العام للجامِعة أحمد أبو الغيط لتَقصّي المواقفِ اللبنانيَّة من التَّطوراتِ المُستجدَّةِ داخليًّا وإقليميًّا، وذلك على وقع ارتفاعِ وتيرة التَّهديداتِ الإسرائيليَّةِ بإطلاق حربٍ شَعواء على لبنان، ويبدو أن القادةَ العرب كما القادة اللبنانيين متوجسون من تهورات القادة الإسرائيليين الذين يرون الوقت مناسباً لتَحويل الجُهد العسكري من قِطاعِ غزَّة إلى الجبهة مع لبنان بعد أن أوشكوا على تقويضِ قُدرات منظَّمةِ حماس القتالِيَّة، إلَّا أنه يبدو أن توجُّهاتَهم هذه لم تلقَ لغايَة الآن موافقةً صَريحةً ومُعلنةً من الإدارةِ الأميركيَّة بسبب انشغالها بالإنتخابات الرئاسيَّة.

تدعونا هذه الزِّيارة إلى تسليطِ الضَّوء على الموقف العربي عُموماً كما على الدَّور الذي كان يُفترضُ أن تضطلِع به الجامِعةُ العربيَّة والتي لم نشهد لها وبكل أسف أيَّ دورٍ فاعل في ما خص المُستجدات على السَّاحةِ الإقليميَّة. وفي هذا الإطار يُمكِنُنا القول أن الأمَّة العربيَّة لم تشهد في تاريخها الحديث حالةَ انكفاءِ تصل إلى حدِّ التَّشتت والضَّياع تجاه ما يتعرَّض له الشَّعب الفلسطيني، وعلى وجه الخُصوصِ تجاه حربِ الإبادَةِ التي شنَّها العدو الإسرائيلي ضُدَّ الشَّعب الفلسطيني الأعزل، وتدميره للأحياء المأهولة على قاطنيها، وتقويضِ كل مُقومات الحياة بتدمير المشافي والجامعات والمدارس ومختلف الأماكن التي كان يلجأ إليها المدنيون توقيًّا من القصف المَحموم، ولم تسلم من أعمال الهدم حتى دور العبادة التي لم يبق منها سوى القليل، أما الضَّحايا الأبرياء فربما يناهزون الماية ألف ما بين شُهداء ومُعوَّقين، ومطمورين ومَفقودين ومُصابين.

 

كل ذلك حصل ويحصل، رغم ما ينطوي عليه الاعتداء الإسرائيلي من جرائم إبادَةِ جماعيَّةٍ وجرائم ضُدَّ الإنسانيَّةِ وجرائمِ حربٍ واعتِداءاتٍ إرهابيَّةٍ تُرتكَبُ على مرأى ومَسمعٍ من العالم أجمَع؛ ساهَمت وسائلُ الإعلام الرَّقميَّةِ والفَضائيَّاتِ ووسائطِ التَّواصل الاجتماعي في فضحِ الانتهاكات الجُرميَّة الإسرائيليَّة لكل المواثيق الدَّوليَّة التي تعنى بحقوق الإنسان والحق في تقرير المصير كما لقوانين وأعراف الحَرب، والتي ساهمت في نشرِ الوعي على مستوى العالم لمَخاطر ووحشيَّةِ الارتكابات الإسرائيليَّة بحقِّ الشَّعب الفلسطيني، وانكشاف حقيقةِ هذا الكيان الغاصبِ وبطلان مزاعمه التي كان يتلطى خلفها، وكذلك الشِّعارات التي كان يستعملُها لتشويه سِمعة مُعارضيه وخصومه بما في ذلك اتهام كل من ينتقد عُنصريَّته وهمجيَّته بمُعاداة السَّاميَّة. هذا الوعي أدّى إلى تحولٍّ جزري في مواقفِ الشُّعوب الغربيَّة التي كانت مُضلَّلةً بأكاذيب الدِّعايةِ الصَّهيونيَّة، وأبدت تلك الشُّعوب تعاطُفها العلني مع الشَّعب الفلسطيني في دفاعه عن أرضه ومقدَّساته، وشاركت جماهيرٌ غفيرةٌ في الاحتجاجاتِ والمُسيَّراتِ شارك فيها مئات الآلافِ من المواطنين في مُختلفِ أصقاعِ الكرة الأرضيَّة.

 

تلك الصَّحوةُ الغربيَّةُ والتي عُبِّرَ عنها بانتفاضاتٍ عارِمةٍ داعِمة للقضيِّة الفلسطينيَّة لم يسبق أن شهدت تلك المُجتمعاتُ مثيلًا لها منذ نكبة فلسطين الأولى أي منذ العام 1948، إلَّا أن الأمرَ لم يكن على ذات المنوالِ في الدُّول العربيَّةِ التي أقل ما يقال فيها أنها شهدت وتشهدُ برودةً شعبيَّةً غير مُبرَّرة، تنمُّ عن حالة الإحباط والاهتراء التي وصلَ إليها الشَّعب العربي، بما في ذلك الشَّعب الفلسطيني القاطن في الضَّفَّةِ الغربيَّة.

الموقفُ العربي الرَّسمي جاء انعكاساً لحالةِ التَّفكك التي وصلت إليها الدُّول العربيَّة، واقتصر على الدَّعوة إلى قمَّتين عربيَّتين، اكتفي فيها بإصدار بيانات تعاطفيَّة، وتكليفِ لجنة مُتابعةٍ لم تُحِقِّقَ أيَّ إنجاز رغم الزِّيارات التي قامت بها لعددٍ من العواصم الدَّوليَّةِ المُؤثِّرة على السَّاحة الدَّوليَّة. ويعزو بعض المحلِّلين حالةِ العجز هذه إلى الصِّراعاتِ الإقليميَّةِ القائمةِ في منطقة الشَّرق الأوسطِ والانزعاج من التَّدخُّلاتِ الإيرانيَّة في شؤون الدُّول العربيَّة الدَّاخليَّة، ولكون حماس واحدةً من المُنظَّمات التي دارت في فلك النِّظام الإيراني وتتلقّى الدَّعم منه، ووصلَ الأمرُ ببعضِ الدُّول إلى الانسياقِ في مسارٍ تطبيعي مع الكيان الإسرائيلي نِكايةً بإيران ومن يدور في فلك محور المُمانعة، وربما تأثَّر بعضُ الزُّعماء العرب ورضخوا للتَّهديدات الأميركيَّة والغربيَّة المُبطَّنة التي أُطلِقت بُعيدَ انطلاقِ شرارةِ الحرب على أثر عمليَّةِ طوفان الأقصى، وكأن ما حصل ويحصلُ في غزَّة غير كافٍ لاستنهاض العزيمةِ والهِمَم العربيَّة، ولكأن الإرتكابات الإسرائيليَّة لا تمسُّ بالمُقدساتِ الدينيَّة ولا تطالُ الكرامةَ العربيَّة، إلى حد يوحي بهيمنةِ شعورٍ بالذُلِّ والهوانِ وتفشي الروحِ الانهزاميَّةِ إلى حدِّ الرُضوخِ للإملاءاتِ الغربيَّةِ والاستِسلام للعدو والتَّسليم بالعَجز عن مُجابَهَته.

 

وبقدر ما كشف طوفان الأقصى والحرب التي شُنَّت على إثره على غزَّةَ حقيقةَ الكيانِ الإسرائيلي وتَخلي الغرب في سبيله عن كل القيم الانسانيَّة والشِّعاراتِ والمبادئ الدِّيمقراطيَّة التي كان ينادي بها أو يتلطى خلفها، وجُهوزيَّة الدُّولِ الغربيَّة لخوضِ غِمار حربٍ إقليميَّةٍ وربَّما دوليَّةٍ خدمةً للكيان الصَّهيوني الغاصب، بقدر ما انكشفت الروح الانهزاميَّةُ العربيَّة، والتَّخاذُل في الدِّفاعِ عن المُقدَّساتِ والحقوقِ العربيَّةِ المنتهكة، وانفضحت روح المؤامرةِ لدى بعضِ الحُكَّام العرب الذين بدوا منقلبين على مصالحِ الأمَّة، وإن حاول بعضهم تلميع صورته برمي بعض المُساعداتِ الإنسانيَّةِ عبر مُناورات جويَّةٍ استعراضيَّةٍ فلكلوريَّة، ظنوا أنها تُمحي وصمةَ العار التي لحِقت بالأمَّة نتيجة التَّخاذل والامتناع عن دعم أهل غزَّة ونصرة القدس والوقوف إلى جانب الشَّعب الفلسطيني في حربه المُقدَّسة دفاعًا عن أرضه وعِرضه وشرفِه.

لم يكُن المطلوب من الشَّعب العربي الاقتداء بالطَّيَّار الأميركي الذي أحرق نفسه، وليس مطلوباً من القادة العرب إقحام جيوشهم في المَعركة دفاعاً عن فلسطين، إذ لا عاقل يتوقَّع منهم ذلك، وليس بينهم من مُعتصم أو معصومٌ من الرزايا ويبدي غيرةً على الأمَّة. جُلَّ ما نرجوه منهم هو القيام بالحدِّ الأدنى لصون الكرامة العربيَّة، كوقف النَّشاطات التَّطبيعيَّة، أو تجميد العمل بالإتِّفاقياتِ الثُّنائيَّة، أو التَّهديد بالإلغائها، أو سحبِ السُّفراءِ المعتمدين لدى الكيان وطَردِ سُفرائه على غرار ما أقدم عليه الرئيس الكولومبي، أو الرئيس البرازيلي، أو الاقتداء بجنوب أفريقيا التي أقامت دعوى ضد إسرائيل أمام المَحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّةِ هزَّت كيانها، للأسف وقف العرب شعباً وحكَّاماً يتفرَّجون على إبادةِ إخوانهم في غزَّة، وطَمرِ العديد منهم أحياء، وتركهم فريسةَ الجوع والأوبئة والأمراضِ والوحوش والحشرات السَّامَّة وفي ظلِّ ظروفٍ مناخيَّةٍ قاسية، مُتنكِّرين لشِعاراتِهِم السَّابقة، ضارِبين عرضَ الحائطِ بكل مُعاني النَّخوة والمروءة والتَّضامن والوحدة العربيَّة إلى حدٍّ بدوا فيه مُتخلِّين عن قَضيَّتهم المركزيَّةِ ومُتنازلين للعدو الإسرائيلي عن فسلطين بقدسِها الشريف وأهلها الصَّابرين الصَّامدين في وجه العدوان.

 

أين هم العرب مما جرى ويجري على أرض فلسطين كما على السَّاحتين الدَّوليَّةِ والإقليميَّة؟ يظُنُّ بعضُ القادةِ العربِ أنهم بموقِفِهِم الحيادي الملتبسِ يُجنبون بلداهم شرَّ الحروب، ويحفظونَ عُروشَهم وكراسيَهم، ويُمكِّنُهم من الانصراف إلى توجُّهاتهم الإعماريَّة والإنمائيَّة، ولكن فاتَهم أنه من دون أمن واستقرارٍ إقليمي لا يمكن التَّعويل على النُّهوض الاقتصادي في ظِلِّ تهديداتٍ مَصيريَّة ووجوديَّة.

لقد عرَّى طوفان الأقصى وما تبعه من حرب، الدُّولَ والشُّعوب العربيَّة، وكشف تأمُرَها وتخاذلها وخنوعَها، وتخلّيها عن منظومة القيَم التي توارثتها. وتبيَّن أن معظمَ الأنظمة العربيَّة لديها تبعيَّة للخارج، وأن معظمَ حكَّامها مرتهنون لمن يزعمُ أنه يوفِّرُ الحِمايةَ لأنظمتِهم، ويحفظ لهم عُروشَهم وكراسيهم. وفي الحقيقة ما كان للعدو الإسرائيلي أن يستبيح الدماء الفلسطينيَّة بخاصَّة والعربيَّة بعامَّةً لو لم يكن مُقتنعاً بأن لا موقف عربي مؤثِّر تِجاه ما يحصلُ في فلسطين، وضامناً لسُكوتِ معظمِ الأنظمة العربيَّة، واثقاً من قبولها الضُّمني بما يقوم به على الأراضي الفلسطينيَّة نكايةً ببعضها البعض.

إن وقوفَ الدُّولِ العربيَّةِ اليوم متفرِّجةً على ما يحصل من غزَّة، متلهيَة بحزازيَّاتٍ ومناكفاتٍ شخصيَّة، يصبُّ في خانة العدو الصَّهيوني والخصم الإيراني، ويُسهِّلُ عليهما السَّيطرةِ عليها والتَّحكُّمِ بخياراتها، لأن العدو كما الخصم بتطلُّعاتِهما التَّوسُّعيَّة وأطماعِهِما في الثرواتِ الطَّبيعيَّةِ العربيَّة لن يوفِّراها مهما سعت تلك النُّظمِ إلى تَحييدِ نفسها أو النَّأي بالنَّفس عن الصِّراع العربي – الصهيوني وهو صراعٌ تاريخي وجودي، لا يمكن إغفاله في مقاربة المُتغيّرات في منطقة الشرق الأوسط.

أين العربُ وجامعة الدُّول العربيَّة، من كل ما حصل ويحصل في غزَّة وفلسطين وعلى السَّاحتين الإقليميَّة والعربيَّة؟ ولما ما زالوا مُنكفئين ومتقاعسين عن القيام بأدنى واجباتهم حيال فلسطين، وهم بالتَّأكيدِ سيكونون من بعدها عُرضَةً لمكيدةِ شَرسَةٍ مدمِّرة، وربَّما كانت بداياتها منذ ثلاثة عقود من الزَّمن، بدأت بتقويضِ الاستقرار السِّياسي والأمني لبعضِ الدُّول العربيَّة، وأصبحت أقربُ إلى أشلاء دولة، وآلت أوضاع الأمَّةِ إلى التَّفتُّتِ والتَّشرذُمِ والاهتراء، ولنا عبرةً فيما وصلت إليه أحوال كل من العراق وسوريا وليبيا وعلى ذات المنوال تسير الأوضاع في السُّودان.

إن الكيان الإسرائيلي والحركة الصَّهيونيَّةَ العالميَّةَ والغربُ المُتصهين من خلفهما، وإن كانت تصبُّ اهتمامها اليوم على فلسطين، فهي لن توفِّر مُستقبلاً أيًّا من الدُول العربيَّة.

لقد آن الأوانُ للأمَّةَ العربيَّةَ أن تَستفيقَ من سُباتِها العميقِ قبل فوات الأوان، لأنها مستهدفةٌ بمؤامرات لن تنتهي إلَّا بتفتيتها إلى دويلات تحكُمُها أنظمَةٌ مُتناحرةٌ في ما بينها، على نحوٍ يسهل استباحَةُ أراضيها ونَهبُ ثرواتَها الوطنيَّة، وتجريدها من كل عوامل القوَّة والنُّهوض، وقد يكون ما يحصلُ في غزَّة اليوم بدايةَ البداية، ولكن سرعانَ ما ستَمتَدُّ المؤامرةُ إلى دولِ الخليجِ ومِصر ودولِ المُغربِ العربي. كما أن الحُكَّام العرب مطالبون بألَّا يجعلوا من بلدانهم وشعوبهم مُستباحةً أمام الصَّهاينة وغيرهم، وعليهم ألَّا يُتيحوا المجال للطَّامعينَ للوصولِ إلى ثرواتِ بلدانهم، وكل ما نرجوه صحوةً عربيَّةً صادقَةً تعيدُ للأمَّة وحدتها وتماسُكَها وعناصِرَ قوَّتِها.