أحد أبرز عناصر الاستراتيجيا الجديدة لحزب “سيريزا” اليساري الحاكم حديثاً في اليونان هو “مغازلة” روسيا والتقرّب منها. وللنجاح في ذلك ينطلق من علاقات قوية أساساً بين موسكو وأثينا، زادها متانة انتماء غالبية الروس كما غالبية اليونانيين الى المسيحية الأرثوذكسية. أما العوامل الفعلية لقوة العلاقات فقديمة أبزرها الدعم الذي قدمته روسيا إلى اليونان كما إلى دول بلقانية عدة لمواجهة اعتداءات واحتلال السلطنة العثمانية خصوصاً في القرن التاسع عشر. ويبدو، استناداً إلى باحثين أميركيين متابعين علاقة الدولتين الأرثوذكسيتين، أن وجهات نظرهما كانت على وجه الإجمال متشابهة. ولعل أبرز الأدلة على ذلك وأكثرها وضوحاً الدعم الذي قدمته روسيا لليونان في أثناء الصراع في قبرص بين يونانييها والأتراك، وكذلك الدعم الذي قدمته الثانية لروسيا في أزمة كوسوفو. ولا يقلِّل الفرق في الحجم بين الدولتين من أهمية الدعم اليوناني وخصوصاً في مرحلة كانت روسيا تعاني جرّاء انهيار الاتحاد السوفياتي. فضلاً عن أن عدد السياح الروس الذي يقصدون اليونان يتجاوز المليون سنوياً.
يعني ذلك أن لأثينا مصلحة استراتيجية في المحافظة على علاقة جيدة بروسيا. فهي من جهة تعتمد على الغاز الطبيعي الذي تحصل عليه منها بأسعار مخفّضة. وهي من جهة ثانية تعرف، رغم احتمال توصلها إلى اتفاق مع دائنيها الأوروبيين، أن الفشل في هذا قد يدفعها إلى الخروج من العملة الأوروبية الموحّدة. وفي حال كهذه فإن قيمة الدراخما، العملة اليونانية القديمة، قد تنخفض سريعاً، وقد تبقى منخفضة على المدى القصير على الأقل. ومن شأن ذلك جعل استيراد النفط أكثر كلفة، أي أغلى، ولا يمكن معالجة هذا الأمر من دون صداقة حقيقية يونانية – روسية.
إلى ذلك كله، يعتقد الباحثون الأميركيون أنفسهم، أن اليونان في حاجة ماسّة وسريعة إلى توثيق علاقتها بروسيا المتينة أساساً. ذلك أنها اتفقت قبل سنة تقريباً مع شركة غاز بروم الروسية على خفض أسعار الغاز الذي تصدّره إلى اليونان بنسبة 15 في المئة. لكنها لم تستهلك الكمية المتفق عليها السنة الماضية بسبب تردي أوضاعها المالية والاقتصادية وخلافها مع الاتحاد الأوروبي. ولهذا السبب فإنها ستطلب من الشركة المذكورة إعادة النظر في الاتفاق تلافياً لدفع ما يمكن اعتباره بنداً جزائياً بسبب عدم استيراد أو استهلاك كل الغاز الذي اشترته. والمبلغ المطلوب دفعه كبير. وستبدأ المحادثات حول هذا الموضوع قريباً. كما حول موضوعات أخرى منها جعل اليونان محطة تصدّر روسيا بواسطتها غازاً بدلاً من بلغاريا ومن تركيا التي كان تم اتفاق مبدئي معها.
وأخيراً تحتاج اليونان إلى كل ما يمكن أن تحصل عليه من مساعدات مالية. ذلك أنها لا تمتلك الأموال اللازمة لتنفيذ كل الوعود التي قدمها حزب “سيريزا” الحاكم حديثاً للشعب إبّان الحملة الانتخابية. فضلاً عن أن المصارف اليونانية تزداد هشاشتها وصعوبة اقتراضها من الأسواق المالية. ولهذا السبب فإن قرضاً من روسيا سيكون مرحّباً به وبشدّة. وقد تحدّث عن هذا الأمر في الـ29 من الشهر الماضي وزير المال الروسي أنطون سيلويانوف إذ قال أن روسيا مستعدة للنظر في تقديم مساعدات مالية لليونان إذا طلبتها. لكن روسيا تواجه بدورها مشكلات مالية، ومن شأن ذلك الحدّ من مساعدتها المحتملة أو على الأقل تقليص حجمها.
كيف ستؤثّر الأزمة الأوكرانية على يونان “سيريزا” ورئيسه تسيبراس؟
لقد وضعتها في موقف غير مرتاح بسبب ضغط الاتحاد الاوروبي عليها للموافقة على فرض عقوبات على روسيا. وهي ليست مستعدة لذلك. وعبّرت عن موقفها بالتذمّر من موقف أوروبي رسمي يدين ممارسات الروس في أوكرانيا. وعطّلت في 29 الشهر الماضي اتفاقاً على توسيع لائحة المسؤولين الروس والأوكرانيين المعرضين لتجميد الأموال والممتلكات. علماً أنها ليست لاعباً رئيسياً، وعلماً أيضاً ان تخفيف العقوبات على روسيا ليس أولوية يونانية.
في أي حال ستبدأ المفاوضات قريباً بين اليونان والاتحاد الاوروبي. وهي ستحاول البقاء داخل منطقة الأورو. لكن اذا فشلت في ذلك. واذا اضطرت أيضاً إلى مغادرة الاتحاد الاوروبي، والأمران غير محتملين كثيراً، فإنها ستؤكد وستثبِّت تحالفاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع موسكو كي تبدو مستعدة لمواجهة كل طارئ.