جذُور المنافسة بين «الكتائب اللبنانيّة» و«القوّات اللبنانيّة» تعود إلى أيّام الحرب اللبنانيّة، وتحديدًا إلى المرحلة التي إنبثقت فيها «القوّات» كجناح عسكري من رحم حزب «الكتائب»، والعلاقة بين الطرفين كانت عرضة لهبّات باردة وساخنة على مدى عُقود. ومع عودة النبض إلى الحياة السياسيّة على الساحة المسيحيّة إعتبارًا من العام 2005، عاد التنافس بين «القوّات» و«الكتائب» ليشتدّ، إلا أنّ راية «14 آذار» كانت كافية لإبقاء التنافس تحت السقف الديمقراطي، وللتوافق على توزيع المقاعد النيابيّة بين الطرفين. لكن بالأمس القريب، وفي الوقت الذي كان فيه غضب «الكتائب» يتصاعد على مُساهمة «القوات» الرئيسة في التسوية التي قضت في نهاية المطاف إلى إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا لجمهورية، بعد توقيعها «إعلان نوايا» مع «التيار الوطني الحُرّ» والذي إستكمل بما إصطُلح على تسميته «تفاهم معراب»، جاء خروج أو إخراج «الكتائب» من الحُكم، ودُخول «القوّات» بقوّة إلى الحكومة الجديدة، ليُشكّل «نقطة الماء» التي أفاضت كوب الخلافات المُستترة إذا جاز التعبير.
ومنذ ذلك الحين حتى تاريخه، تدهور الوضع بشكل كبير وتصاعدي بين الحزبين، حيث إتهمت «الكتائب» «القوّات» بالعمل على إقصائها، في حين رأت «القوّات» أنّه من غير المُمكن الجمع بين موقع المُعارضة والمُشاركة في السُلطة في آن واحد، كما يفعل حزب «الكتائب». وبعد التوافق على قانون جديد للإنتخابات النيابيّة وفق مبدأ النسبيّة، سقط عامل المصلحة المُشتركة الذي كان يجمع الطرفين، وبلغ التراشق مُستويات غير مسبوقة. وفي هذا السياق، سُجلت أكثر من مُواجهة إعلاميّة بين المُناصرين لجهة تبادل الإتهامات على مواقع التواصل الإجتماعي، وإنتقل جزء من هذه الممارسات إلى القيادات، حيث تهجّم النائب عن حزب الكتائب فادي الهبر على رئيس جهاز الإعلام والتواصل في «القوات» شارل جبور، بأسلوب دون مُستوى التخاطب السياسي المقبول، حيث كتب في تغريدة على موقع «تويتر»: «الإستيعاب واجب في الشأن العام… والسفاهة عند أحد الإعلاميّين لها حسابها… ولأن رأس البغل له رصنه… ولو كان من أهل البيت»، الأمر الذي دفع جبّور إلى الردّ بتغريدة مُضادة جاء فيها: «نقول لأحد نوّاب الصُدفة في الجبل حسابك آت في صناديق الإقتراع، فأهل الجبل يريدون من يمثّلهم لا من يُمثّل عليهم… والبغل هُوِّي يَلّي بينتخبك». وبلغ التوتّر أشدّه مع عدم توجيه دعوة إلى رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل إلى مهرجان «ذكرى شُهداء القوّات»، الأمر الذي وصفته مصادر «القوّات» في حينه بأنّه خطأ غير مقصود، بينما ردّ عليه حزب «الكتائب» بمُقاطعة المهرجان بشكل كامل، باستثناء النائب نديم الجميّل الذي شارك مُبديًا تحفّظه على ما حصل، علماً أنّه يُشكّل نقطة إلتقاء بين الطرفين بسبب طبيعة القاعدة الشعبيّة التي تؤيّده والمُختلطة بين الطرفين، شأنه في ذلك شأن النائب إيلي ماروني.
وبحسب أوساط مسيحيّة مقربة من القوات على أسباب الخلاف المُستجدّ بين «الكتائب» و«القوّات»، إنّ هذه الأخيرة تتفهّم مُحاولة حزب «الكتائب» إستغلال موقعه المُعارض حاليًا، في مُحاولة لرفع شعبيّته عشيّة الإنتخابات النيابيّة، لكنّها ترفض تهجّمات «الكتائب» عليها، وإتهاماته بأنّها باتت جزءاً من مافيا السُلطة، وبأنّها تخلّت عن المبادئ من أجل الوُصول إلى الحُكم. وتابعت الأوساط أنّ «القوّات» تتمنّى لو يتذكّر الكتائبيّون أنّهم كانوا مُمثّلين بثلاثة وزراء في السُلطة بالأمس القريب وهي كانت على كرسي المُعارضة لكنّها لم تستعمل هذه الأساليب المُلتوية والشعبويّة بحق «الكتائب»، و«القوات» تتمنّى أيضًا الإطلاع على مواقفها الأخيرة من سياسات «حزب الله» ومن التطبيع مع سوريا ومن النظام السوري، بما يؤكّد ثباتها الكامل على مبادئها.
وكشفت الأوساط نفسها أنّ «القوات» تعمل حاليًا بجهد على وقف التدهور الحاصل، خاصة أنّه لا يزال من المُمكن البناء على مبادئ «14 آذار» لعودة التفاهمات السابقة، وهي تنوي إرسال موفد رفيع من قبلها إلى البيت المركزي الكتائبي في المُستقبل القريب، للتأكيد مُجدّداً على أن ما يجمع بين الحزبين هو أكبر ممّا يُفرّقهما، وخُصوصًا للتوافق على أسس واضحة للتعامل المُستقبلي، وعدم الإكتفاء بلقاء عابر بين رئيس «القوات» الدكتور سمير جعجع ورئيس «الكتائب» النائب سامي الجميل لتحسين العلاقات لبضعة أيّام. لكنّها في الوقت عينه لا تُريد أن تكون هذه الزيارة فولكلوريّة، ولا أن تكون نتائجها شبيهة بزيارات وباتصالات سابقة، لجهة أنّ «كلام الليل يمحوه النهار». ولا ترغب «القوات» بحسب الأوساط نفسها بأنّ يُفسّر موقفها وكأنه ضُعف من جانبها أو كأنّه مُحاولة لكسب ودّ «الكتائب» مُجدّدًا، بعد تصاعد التوتّر بين «القوّات» و«التيّار الوطني الحُرّ» وتراجع فرص التحالف الثنائي في الإنتخابات النيابيّة المُقبلة. وأضافت الأوساط نفسها أنّ «القوات» التي تُحاور حاليًا كل الأفرقاء المسيحيّين من دون أي إستثناء، لا ترغب إطلاقًا بهذا التباعد الحاصل مع «الكتائب» لكنّها لا يُمكنها صيانة الوضع من دون مُساعدة من هذا الأخير أيضاً.
ولفتت مصادر مسيحية متابعة للعلاقة بين الحزبين إلى أنّ «القوّات» تُدرك جيّداً أنّ الإنتخابات النيابيّة المُقبلة ستكون سببًا لخلافات داخل الحزب الواحد، فكيف بالحري بين أحزاب مُختلفة قد تكون على لوائح مُتواجهة. وأضافت أنّ «القوات» تعتزم التواجد في أغلبية الدوائر على مُستوى الترشيحات وليس على مُستوى الإقتراع فحسب، وهي لن تُقدّم هذه المرّة هبات مجانية لمن كان يُفترض أن يكون من بين الحلفاء، بل تسعى لتركيب لوائح مُتجانسة وقويّة تكون للقوات فيها حصّة تليق بحجم قاعدتها الشعبيّة في مختلف المناطق، في حين أنّ «الكتائب» تستعد بدورها للترشّح في كثير من الدوائر ولدعم لوائح في أماكن أخرى، الأمر الذي سيُحتّم المُواجهة الإنتخابية بين الحزبين. وأوضحت الأوساط أنّ عين «الكتائب» مثلاً هي على إستعادة مقعد البترون وعلى زيادة حصّتها في زحلة وفي المتن وعلى الدخول إلى كسروان وعكار، بالتزامن مع التمسّك بمقاعدها في بيروت الأولى وفي عاليه، إلخ. بينما تُخطّط «القوات» للإحتفاظ بمقاعدها الحالية، وبالدخول إلى كل من المتن وكسروان وبيروت الأولى وعكار وبرفع حصّتها في دائرة الشوف – عاليه، إلخ.
وتوقّعت المصادر أن يهدأ التراشق الإعلامي جزئيًا بين «القوّات» و«الكتائب» لكنّ العلاقات الثنائيّة التي هي حاليًا في أدنى مُستوياتها على صُعد التواصل والتنسيق، لن تشهد أيّ فرصة للتحسّن وربما للعودة إلى سابق عهدها قبل تبلور طبيعة تحالفات المعركة الإنتخابيّة. وبالتالي، إذا كانت «القوات» و«الكتائب» على لوائح مُتواجهة، سيكون الأمل ضئيلاً في تطبيع العلاقات، قبل إعلان نتائج الإقتراع، ومعرفة الأحجام السياسيّة على حقيقتها، ليس على مُستوى «الكتائب» و«القوات» فحسب، وإنّما على مُستوى مختلف الأحزاب السياسيّة في لبنان.