سياسة النأي بالنفس التي أُقرّت في البيان الوزاري لحكومة الرئيس سعد الحريري وفي بيانها الاستثنائي على أثر عودة الحريري عن استقالته هي سياسة ثابتة بدأت مع التسوية الرئاسية وغير قابلة للتعديل بين حكومة وأخرى.
حاول البعض تفسيرَ موقف وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بأنّ «الرئيس السوري بشار الأسد باقٍ…»، على غير حقيقته، لجهة أنه اعتراف وتسليم ببقاء الأسد في السلطة، فيما هو جاء في سياق مقابلة ورداً على سؤال، وبالتالي هو جواب توصيفي للوضع القائم الذي لا يؤشر إلى احتمالات وجود تسوية للواقع السوري المأزوم والذي يشكّل نظام الأسد أضعف مكوّناته الموجودة على الأرض السورية المقسّمة إلى ولاءات ومناطق نفوذ داخلية وخارجية.
كما حاول البعض ربط موقف بن سلمان الذي لا يمكن أن يتبدّل من ضرورة إسقاط النظام السوري، حاول ربطه أو إسقاطه على الحكومة اللبنانية المقبلة وضرورة انفتاحها على النظام السوري وإعادة تطبيع العلاقات اللبنانية-السورية وكأنّ شيئاً لم يكن، الأمر غير الوارد مع حكومة العهد الثانية بعد الانتخابات ولا مع أيّ حكومة أخرى إلّا بعد قيام تسوية في سوريا تحظى بمشروعية سورية وعربية ودولية.
وفي مطلق الأحوال النأي بالنفس اللبناني لا يتعلق بمصير النظام السوري، إنما يتصل بسياسة لبنانية تحدّد ماهية المصلحة اللبنانية العليا القائمة على قاعدة استبعاد ما هو مختلف عليه ويشكل انقساماً عمودياً لبنانياً، لمصلحة ما هو متفق عليه، وفي طليعة المسائل الخلافية العلاقة مع النظام السوري.
وإذا كان سلاح «حزب الله» من الموضوعات الخلافية الأساسية، إلّا أنّ هناك نوعاً من اتفاق ضمني أنّ التسليم بهذا السلاح غير وارد، وأن حلّه عن طريق القوة غير ممكن وغير وارد أيضاً، وأنّ الظروف الإقليمية كفيلة بإيجاد الحلول اللازمة لهذا السلاح، وبالانتظار يجب الحفاظ على الاستقرار أولاً، كما يجب منع هذا السلاح بأن يستجلب الحروب الخارجية ويؤثر على مسار الأمور في الداخل أولاً وثانياً.
وأحد أبرز ركائز التسوية السياسية التي أدّت إلى انتخاب الرئيس ميشال عون تحييد الملفات الخلافية، خصوصاً أنّ التجربة الحكومية الحالية أثبتت انّ من أسباب استقالة الحريري كانت المحاولات المبرمجة لإحياء العلاقات اللبنانية-السورية، والإصرار على زيارات علنية للوزراء وتلبية دعوات رسمية ودعوات مقابلة، كما الإصرار على التنسيق مع النظام السوري في مسألة عودة اللاجئين وموضوعات أخرى، فيما بسحر ساحر توقف كل الاستفزاز لمشاعر اللبنانيين فجأة، حيث توقف الحديث عن زيارات علنية الى سوريا أو عن ضرورات التنسيق وغيره، والسبب في ذلك أنّ «حزب الله» أدرك جيداً على أثر استقالة الحريري أنه لا يمكنه الاستمرار في السياسة نفسها، وأنّ محاولاته القضم التدريجي لن تمرّ، وأنّ استمراره في هذه السياسة سيقود إلى استقالة نهائية وعودة الانقسام الى سابق عهده، الأمر الذي لا يبدو أنه في وارد العودة إليه اليوم ومن باب الخلاف السوري.
فـ«حزب الله» يدرك تمام الإدراك أنّ حكومة يترأسها الحريري وتضم «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الإشتراكي» لا يمكن أن توافق على تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وأيّ تطبيع لا يكون من البوابة اللبنانية في مواجهة البوابات العربية، بل المدخل الوحيد للتطبيع هو انتهاء الحرب السورية وحيازة النظام الجديد الشرعية العربية والدولية، وبالتالي لن يمرّ التطبيع عن طريق لبنان وفي تحدِ موصوف للإرادة العربية الخليجية وتحديداً السعودية وبشكل خاص.
وهذا من دون التقليل من الانقسام اللبناني حول الموضوع السوري، بين فريق يعتبر النظام السوري جزءاً لا يتجزّأ من محور الممانعة، وبين فريق آخر يعتبر أنّ هذا النظام أعطي فرصة بعد خروجه من لبنان لقيام علاقات طبيعية بين الدولتين على رغم التاريخ الكارثي بين النظام وشريحة واسعة من اللبنانيين، ولكن على رغم ذلك لم يلتقط الفرصة التاريخية بل واصل محاولاته للعودة إلى لبنان من «الباب والشباك» إلى حدّ محاولة تفجير الوضع اللبناني عن طريق متفجرات ميشال سماحة المثبتة قضائياً بأوامر سورية، وفي ملفّ تفجيرَي مسجدَي السلام والتقوى في طرابلس المثبت أيضاً بدوره.
ومن دون التقليل أيضاً من غياب عامل الثقة مع النظام السوري بفعل التجربة المثلّثة معه: في الحرب، وإبان احتلاله للبنان وبعد خروجه منه في العام 2005، فضلاً عن أنّ استمراره في سوريا يرتبط باستمرار الأزمة فقط لا غير، فيما يستحيل أن يكون في مشهد ما بعد التسوية، ولكنّ المؤكد أن لا تسوية في الأفق، وأنّ هذا الموضوع يثير انقساماً لبنانياً-لبنانياً، ولا مصلحة لأيّ طرف من الأطرف بتعطيل الدولة وتجميدها.
وفي السياق نفسه لا مصلحة للرئيس ميشال عون في أن يتعطّل عهده بسبب الانقسام حول النظام السوري، فيما المصلحة تقتضي بتحييد هذا الموضع وإبقاء العلاقة بين لبنان وسوريا قي حدودها الدنيا الموجودة بانتظار انتهاء الحرب وقيام تسوية تحظى على الشرعيات الثلاث السورية والعربية والدولية، وبالتالي بانتظار ذلك لكل حادث حديث.
وعليه، فإذا كان «حزب الله» ليس بوارد التفريط بالاستقرار السياسي القائم، وإذا كان الرئيس عون لن يتساهل مع كل ما مِن شأنه ان يعطِّل عهده، وإذا كان كل من «المستقبل» و»القوات» و»الإشتراكي» ليس بوارد تمرير التطبيع او تهريب التطبيع لا من قريب ولا من بعيد، فإنّ المعادلة السياسية التي حكمت الحياة الوطنية منذ انتخاب الرئيس عون حتى الانتخابات النيابية ستستمرّ إلى ما بعد استحقاق 6 أيار والحكومة الجديدة.
وما لا يجب الاستخفاف فيه هو العودة السعودية القوية الى المسرح اللبناني، كما المظلّة الدولية الكبرى فوق لبنان التي ظهرت بوضوح مع استقالة الحريري وتترجم في المؤتمرات الدولية، وبالتالي لا الرياض ستسمح ولا المجتمع الدولي قاطبة بأن يهتزّ الاستقرار اللبناني من البوابة السورية.
فكل ما تقدّم من أسباب وغيرها طبعاً سياسة النأي بالنفس مستمرة، والعلاقة مع النظام السوري لن تكون مطروحة على طاولة الحكومة المقبلة كما هي غير مطروحة اليوم.