هناك “حزب” لبناني لا اسم له لكنه كبير ومهم، لا وجود له في النمط السائد من السياسة لأنه غير طائفي، ولم يكن له دور في الصراعات التي ولغت في سفك الدماء وشحن الأحقاد لأنه نقيضها. انه “حزب” غريغوار حداد الذي رتّب رحيله، قبل ايام، مناسبة للتعرّف الى انتشار هذا “الحزب” العابر للمذاهب والطوائف. انه حالٌ لبنانية بحتة، انسانية بامتياز، شدّت أفواجاً من الشباب والشابات الى رحابة رجل الدين هذا وبساطته وعمقه. فمعه فهموا أن القضاء على الطائفية لا يكون بالشعارات، ولا بالتظاهرات والاعتصامات على ضرورتها، ولا حتى بقوانين لا بدّ منها، بل يكون أكثر بالعمل معاً في عمق المجتمع، بنهج تنموي وروح تضامنية.
ولا أي شباب أو شابات انخرطوا في “الحركة الاجتماعية” التي أسسها أمكن أن تجدهم على تخوم العنف أو مسالك التعصّب ومستنقعات التطرّف، وانما تلقاهم، اينما تلقاهم وإن باعدت بينهم الأيام والظروف، مهتمّين بشؤون الناس، تعليماً وصحةً ومساعدة للفقراء وتوعية لتحسين نوعية المعيشة. ولم يكن المنطلق معقّداً، ولا مفلسفاً. كان بسيطاً وشفافاً: الاهتمام بالانسان، والانسان هو الذي نعيش فيه… لم يقل غريغوار حداد لأحد إنه يستمدّ هذه الروح من مسيحيته، على رغم أنها كانت خلاصة ايمانه، وانما كان يقول علينا ان نعمل هنا وهناك، أن نساعد هذا وذاك، بلا أي مفاضلة ولا تمييز.
أوصله ايمانه الى علمانيته، وقادته وطنيته الى علمانيته، ذاهباً الى أن “الديني” لا يتحقق إلا باحترام “الانساني” ورفعته، والى أن العلمانية لا تبعد أحداً عن دينه، ولا تشجّع على الإلحاد، بل تصهر أبناء مختلف الديانات في سياق “مدني” و”مواطني” واحد. تلك كانت هواجس من ستينات – سبعينات القرن الماضي، وهي هواجس اللحظة العربية الراهنة في نقاشات الديني – المدني بالنسبة الى الدولة والدساتير والقوانين الجارية كتابتها. لم تكن مصادفة أن يتّهم المطران حداد
بـ “الانحراف اللاهوتي” في 1975، العام الذي أعيد فيه تظهير الانقسام والاقتتال الطائفيين في لبنان. كان يراد فرملة اندفاعته في اتجاه معاكس تماماً، لتجنيد كل الطاقات “الدينية” في التعبئة الحربية.
قصد المطران كل مكان في لبنان، ولم يكن يصنّف القرى والبلدات بغالبيتها المذهبية بل بحاجاتها التنموية من مدارس ومستوصفات ومنشآت. واذا التقاك يسألك هل تستطيع ان تساعد وبماذا. ما ان دخلت غرفته في معتكفه في الربوة حتى بادرني بالحديث عن شحنة أدوية للمستوصفات تنتظر في لندن وهو يبحث عمّن يسهّل نقلها الى بيروت. كان يعرف أن تفصيلاً كهذا أكثر أهمية من أي عظة دينية.
لم يكن المطران غريغوار حداد والسيد هاني فحص متشابهين في النهج والعمل، لكنهما كانا متلاقيين في أن قيمة الدين تكمن في اعلاء شأن الانسان. وإذ رحلا في أحلك الظروف، فقد ضيّق غيابهما فسحة الأمل.