يعيش اللبنانيون حالة من الترقّب والأمل. فبعد الفشل الكبير في تشكيل حكومة إنقاذ وطني، جاءت دعوة الكرسي البابوي لبطاركة الشرق إلى لقاء في الفاتيكان أوائل الشهر القادم. كان اللبنانيون قد قرفوا من موسيقى جاء الحريري، راح الحريري، قال جبران وقال برّي وأوعز نصرالله، وغرّد جنبلاط وكتب عون إلخ. ربما أنّ الرئيس ماكرون سيثبت هذه المرّة بالفعل، أنّه يعمل لمساعدة لبنان بالخروج من واقع هذه المزرعة التي يديرها أركان السّلطة الفاشلة، إلى رحاب لبنان الوطن. نحن نثق أنّ هذا التلاقي في الفاتيكان ليس سراً على فرنسا. كل العيون الآن شاخصة إلى التحضيرات الجارية على قدم وساق لترتيب المخارج البديلة لاستعادة لبنان إلى حضن الشّرعية الدوليّة.
في هذا الحين، قرأت مقالة الصحافيّة المرموقة راغدة درغام التي تناولت لقاءات الرئيس بايدن المتوقّعة في أوروبا. الصحافيّة المرموقة التي أكنّ لها كل التقدير، إعتبرت أنّ أوروبا تقوم بدور الوكيل عن النّظام الإيراني وتشارك في تعويم وتعزيز قيادتها الإقليميّة، وأنّ طهران في استراحة وراحة مع أوروبا القادرة اليوم على تلبية احتياجاتها من واشنطن بلا عناء. وهي رأت أنّ إيران أصبحت في مرتبة الحاجة الأميركيّة، فيما كانت في زمن ترامب في مرتبة الإستغناء. وقالت انّ أوروبا قرّرت أنّ هاجسها النووي يبرر قفزها على مبادئ سيادة الدول وحقوق الإنسان (هكذا بشطحة قلم فقط)، وأنّ الغرب يتجاهل متعمّداً ما يفعله النظام داخلياً، وأنّه يرى أنّ ما يحدث في العراق ليس شأناً من شؤونه، وأنه لا يريد التّدخل في السياسات الإيرانيّة الإقليميّة التي تدوس على سيادة الدول، من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا واليمن. إيران حليف ورديف لمصالحهم في الشّرق الأوسط. كلّ ذلك مع إشارة سريعة أشبه بأنّها هامشية، بشأن إسرائيل، ومن دون أيّة إشارة إلى الخليج العربي، والمملكة العربيّة السعوديّة، ومصر وتركيا، كأنّها كلّها أدوات غير فعالة، وأخيراً من دون أيّ اعتبار للموقف الوطني اللبناني وإرادة شعبه.
لكنّ ما لفتني تحديداً، هو إشارتها إلى أنّ أوروبا تبلّغت من الوكالة الذريّة أنّ القدرات الإيرانيّة النوويّة تعدّت الإحتواء وباتت متمكّنة عسكريّاً، إذا شاءت. وأنّ أوروبا قرّرت أنّ هذا الكلام كاف للإنصياع إلى ما تريده طهران، كي لا تقدم إيران على تصنيع القنبلة النوويّة. أنا لا أخفي كم فاجأني هذا الكلام المنقول عن الوكالة الذريّة. فمثل هذا الكلام والإستنتاج، لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام في الإعلام الدولي. هذا من جهة، ومن جهة ثانيّة شعرت أنّ أوروبا والعالم، وكذلك إسرائيل، تعاطوا معه كأنّه نبأ عادي لا يبدّل في موازين القوّة الإستراتيجية في الشرق الأوسط والعالم. وأكثر شعرت أنّ إسرائيل مثلاً، لم تر فيه أيّ تهديد لها بالرغم من كلّ الضجيج والصراخ الذي ملأ آذاننا، من جماعات “المقاومة والتّصدي والصّمود”. هناك تفسير واحد لمثل هذا الواقع، وهو الموافقة الضمنيّة للغرب وإسرائيل على أن تمتلك إيران القنبلة النووية ولكن ماذا بعد؟
هذا يعني أنّ الغرب والصهيونية تراجعا عن مواقفهما التي لم تتوقف أبداً منذ انهيار الإتحاد السوفياتي، والتي تسعى لجعل الإسلام العدو الأول للبشرية. كما تعني أنّ كلّ خلفيات ما سمّي بالربيع العربي، الذي لم يكن الا غطاء تجميليّاً لمبدأ “الفوضى الخلّاقة” التي بشرتنا بها السيدة كونداليزا رايس، قد تحوّل لخدمة إيران. كتبنا مراراً عن ذلك، وقلنا انّ الإسلام بالنسبة للغرب، لا يميز بين سنّة وشيعة وغيرهم من أمّة محمّد عليه السلام. هذا يعني أنّ الغرب لا يقبل أن يكون لدى إيران الشيعية قنبلة نوويّة من دون أن يكون لدى المملكة العربيّة السعوديّة السنيّة قنبلة مماثلة. لقد قلنا منذ زمن بعيد، انّ السماح لإيران بامتلاك القنبلة النوويّة سيؤدي إلى سباق تسلّح نوويّ في الشّرق الأوسط. فأين هي إسرائيل من كل ذلك؟
قلت مراراً وأكرر، انّ احتواء إيران الخامنئي هو الهدف الأساسيّ للغرب، لا القضاء على النظام الإسلامي فيها. نعم إيران تخدم مصالح الغرب لكن لهذه الخدمة حدودها، وقد بلغت تلك الحدود، حيث أدّت الفوضى الخلّاقة إلى الغاية، وهي نزع الغطاء القومي العربي عن الصراع مع إسرائيل وتحويله إلى صراع على وطن، إضافة إلى تقسيم هذه الدول فدراليّاً مما يضعف قدراتها العسكريّة ويحفظ لإسرائيل التّفوق الأمني.
من جهة أخرى أقول لصديقتي راغدة، أنّ تجاهل دور تركيا والمملكة غير مفهوم أبداً. فإذا كانت إيران حاجة للغرب لبناء شرق أوسط جديد، فإن تركيا الأخوان السنّة، كانت اليد الثانية لتحقيق هذا الهدف. أين تركيا السنيّة العضو في ناتو من كل هذه الهمروجة؟ سوريا لن تكون ساحة لإيران ولا العراق، ولا لبنان طبعاً. في هذه الدول قوى تهدّد مستقبل تركيا أليس كذلك؟ ربما على صديقتي وعلى الإعلام الذي تباهى بنقل مقالتها، أن ينظرا بعمق أكثر لما يحصل في الشمال اللبناني، فهما سيدركان أنّه مقابل الجنوب لدينا الشمال، الذي ينتظر أي تحرك أحمق يأتي من الجنوب.
إلى صديقتي راغدة أقول، كما كنت أقول للطلبة في الجامعات، إذا كنت تريد أن تفهم الشّرق الأوسط ففتش عن مصلحة إسرائيل. كل الخطأ أن نتجاهل ذلك.
لبنان يا صديقتي لن يكون سوى للبنانيين، كلّ اللبنانيين. لن يكون قطعة بيتزا يتناهشها أمراء الطوائف والحرب، أزلام هذا النظام وذاك. سيعود إلى حريّته ليكون وطن الرسالة، والنموذج الذي أراده الله للعيش المشترك بين مختلف الطوائف فيه. لا طائفة ستحكم أخرى، ولا طائفة ستملك الوطن. الوطن للجميع وفقاً لمبادئ القانون والدستور. تحكمه الديموقراطيّة والحريّات المسؤولة والكرامة الإنسانيّة. فلا ظل للخامنئي عليه ولا لأحد، إلا ظل الإيمان بالله وبالوطن سياجاً للكرامة والإنتماء لعائلة الشّعوب الحضاريّة للقرن الحادي والعشرين.
إيمانك بلبنان ضعيف جداً وأنا لا ألومك. لكنّني أحزن فأنت وأنا عشنا ما حصل في سراديب الأمم المتّحدة بعد الحرب الباردة، وندرك واقع النّظام الدّولي الجديد. أدرك أنّك كنت الصحافية الألمع في نقل ما يقوله الكبار في حينه، لكنّني كنت في القاعات أسمع ما يقال على طاولات المفاوضات، وليس أمام الشاشات. إيران قوّة إقليمية في الشرق الأوسط وقوّة إقتصادية ناشطة، نعم لكن بحدود لا تضايق اللاعبين الكبار وإسرائيل.
نعم لبنان أمام محطة مصيريّة، لكن ليس خلال الأسبوعين القادمين بل خلال الشهر كله. القادة الروحيون هم الآن أمام الإمتحان. فشل السياسيون وعجزوا. الآن دورهم ولن يفشلوا. قد يتمنى البعض لهم أن يفشلوا، وربما يعمل من أجل ذلك كجماعة “المقاومة”، لكنهم لن يفشلوا. التاريخ يعيد ذاته، وقادته الروحيون الأحرار، سيعيدون الحياة لدولة لبنان الكبير. لبنان لن يكون غنيمة لأيّ طرف. هو وطن المسيحيين الأول في هذا الشّرق، فلا تنسوا ذلك أبداً. وإمّا أن يكون وطناً للفرح والتطور والإزدهار للجميع، أو أنه مقبرة الجميع. البديل عن فشل القادة الروحيين يعني العودة إلى الحرب الأهليّة لا محالة. لا حلّ في لبنان خارج دستور الطائف. والطريق إلى الخروج من حالتنا مرصوفة وواضحة وجليّة. من الضروري تطبيق القرارات الدوليّة ذات الصلة بلبنان، بدءاً من اتفاقية الهدنة لعام 1949، وصولاً إلى القرار 1701. من الضروري تحويل قوات الطوارئ الدولية إلى قوة رادعة تنفّذ القرارات. حزب إيران وسلاحه لا يخيف أحداً، إلا الجبناء القابعين في قصورهم والنائمين على أموال الناس المنهوبة. فإذا لم يكن من الموت بدّ فلنمت بكرامتنا ولو استخدمنا أسناناً سلاحاً لنا. فللحريّة الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يدقّ.
من حق أيّ مواطن لا يريد أن يعيش في دولة لبنان الكبير، أن يختار البلد الذي يريد أن يعيش فيه وينتقل إليه. لكن من سيعيش في لبنان يجب أن يكون لبنانيّاً أولاً وآخراً.