ليس من المبالغة قط القول عندما نحاول توصيف المشهد السوري في معطياته الراهنة أنه عودة مفجعة للمربع الأول كما كان عليه إن لم يكن لدى نشوب الانتفاضة الشعبية أوائل عام 2011، فأقلّه كما بدا في لقاء جنيف1 عام 2013 والذي صدر عنه البيان الاول الذي جرى تفسير إحدى فقراته التي تنص على وجوب إيجاد حل سياسي للأزمة السورية عن طريق تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية لتدخل سوريا في مرحلة «ما بعد الأسد». يومها راحت تتحدث وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عن رحيل الأسد بينما تحفظ سيرغي لافروف على تبنّي هذه الصيغة. لم نفاجأ بعدها بمساعي كوفي أنان تلاقي المصير نفسه الذي لاقته مساعي الأسرة الدولية ممثلة بالأخضر الابراهيمي لاحقاً. وكان بشار الأسد يعمد إلى إفشال جميع المساعي السياسية والديبلوماسية، بما فيها تقارير المراقبين العرب، ثم المراقبين الدوليين. يومها كان المجلس الوطني السوري، ثم الائتلاف الوطني، كلاهما في أوج نشاطهما واستقطاب اهتمام الرأي العام الدولي، بخاصة وأن الأنظار كانت تنصب على الجيش السوري الحر وذلك العدد الوازن من الضباط والرتباء والجنود الذين راحوا يلتحقون بصفوفه وذلك على إيقاع الشخصيات الرسمية السورية التي إما التجأت إلى الخارج أو أعلنت ولاءها للثورة. هذا الجيش السوري الحر نفسه الذي أطلق بحقه «لافروف» منذ أيام تصريحاً تهكمياً مبطّناً يسخر فيه من إمكانية كونه حقيقاً، ذلك أن روسيا تتفق عملياً مع الأسد في استخفافه بالمعارضة.
يبدو الآن من نافل الكلام، بل من التكرار والعودة المملّة لاستعراض المحطات التاريخية التي تنحو باللائمة على سياسة الرئيس أوباما وأسلوب تعاطيه المتأرجح الضعيف والمتخاذل مع الثورة السورية ومكوّناتها الرئيسية الأولى وعلى رأسها الجيش السوري الحر. فعندما تم حجب السلاح النوعي عن هذا الجيش وتكديسها في عنابر مستودعات الجيش التركي والحؤول دون تزويده بها، وذلك تحت شتى الذرائع والحجج الواهية فإن السياسة الأميركية كانت عملياً تشجع حركات الانسلاخ عنه وتكوين فصائل منفصلة مستقلة تحارب تحت شعارات الإسلام السياسي بل تتقاتل في ما بينها. وهذا بالضبط ما كان يسعى إليه النظام الأسدي المتهاوي، ذلك النظام المتحالف مع أطماع النظام الملالي في طهران وما أمكن جمعه واستدعاؤه من ميليشيات إيرانية الولاء والهوية تعمل على تنفيذ الأجندة التي رسمها للسيطرة على المنطقة العربية، ابتداء بالبحرين وانتهاء بلبنان واليمن.
إن المجتمع الدولي في تقويمه لبشار الأسد ونظامه قد أصبح مجمعاً وبالكامل أن هذا الأخير لا يوافق على أي حل سياسي عقلاني ومتوازن للأزمة السورية لأنه وبامتياز بطل إفشال جميع المحاولات والمبادرات والمساعي. والروس والإيرانيون في سرائرهم ومواقفهم الداخلية هم على يقين من هذه الحقيقة المريعة، لكنهم يتركون للأسد حرية التصرف الآن في أسلوب تعاطيه معها المتمحور على الإفشال والتعطيل ودفع الوضع السوري إلى طريق مسدود. فطيلة سنوات الحرب السورية التي دخلت عامها الخامس فإن دعوة إيران لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية ظلت تراوح مكانها في حدود التصريحات اللفظية والدعائية ولم تترافق قط مع أي اتصالات أو حوارات جدية مع أي فصيل من قوى المعارضة السورية، بينما كان الكرملين يستضيف من يراه مناسباً من شخصيات سياسية سورية أو قوى هامشية من معارضة الداخل، أولئك الممهورين بخاتم موافقة الأسد وأجهزته. هذا في الوقت الذي كان فيه حزب الله اللبناني وسواه من الفصائل المذهبية المماثلة يزدادون تورطاً في القتال. والحق أن الروس أنفسهم وإن حاولوا في بعض المواقف التمظهر بمظهر الحريص على لعب دور الوسيط بين طرفي الصراع السوري، فإنهم كانوا لا يقلون رياء وخبثاً عن الإيرانيين أنفسهم والدليل على ذلك ليس تسهيلهم فرار أو مرور المقاتلين الشيشان والداغستانيين إلى سوريا للانضمام إلى «داعش» فحسب، بل ما نشهده الآن من تدخل عسكري روسي واسع النطاق بذريعة محاربة الإرهاب. لأن الوقائع اليومية التي تظهرها الأهداف المنتقاة للطلعات الجوية الحربية الروسية تدل على أن غالبية هذه الأهداف تستهدف المعارضة السورية المعتدلة على اختلاف فصائلها، بينما تظل حصة «داعش» من هذه الغارات محدودة تماماً. وإلا كيف نفسر استهداف القاذفات الجوية الروسية أحياء في حلب وحماه وإدلب؟
من يقرأ جيداً مسار السياسة الروسية حيال الأزمة السورية لا يمكنه إلا الوصول إلى الاستنتاج المباشر أن موسكو منذ بدايات هذه الأزمة كانت قد حزمت أمرها باعتبار الأسد ونظامه حليفاً مطواعاً لها، كما هي حاله بالنسبة لطهران، وهو على استعداد دائم لخدمة مصالحها في الشرق الأوسط ولفتح أبواب سوريا بحراً وجواً وبراً أمام آلة الحرب الروسية، شريطة بقائه في سدة الحكم. وقد أسدت له خدمة جلّى حول بيان جنيف1 (30 حزيران 2013) يوم الخلاف مع أميركا حول تفسيره ثم ملاقاة لافروف المحمومة لجون كيري على أثر اكفهرار الجو الدولي حول احتمال توجيه ضربة عسكرية للنظام الأسدي على أثر فضيحة فاجعة الغوطة الشرقية في آب 2013 وإنقاذ الأسد المشرف على الغرق من قبل الكرملين، بل مداخلات لافروف في جنيف2 كانت أيضاً خدمات روسية عندما مالأ لافروف وليد المعلم بحرف المؤتمر عن هدفه الحقيقي بضرورة رحيل الأسد ليصبح المؤتمر منصة لاتهام المعارضة السورية بالإرهاب. كان ذلك قبل ظهور داعش، وخطرها، إلى ما هنالك من تأجيل تسديد ديون سوريا لها وزيارات سلطانوف وبوغدانوف نائبي وزير الخارجية الروسي وصولاً إلى لقاءات موسكو حيث استقبل الكرملين من لا حول لهم ولا قوة من معارضة الداخل السوري… كل تلك الخدمات الروسية كانت تتم على الأرجح بالتنسيق الكامل مع طهران للتدخل العسكري الروسي المباشر الوشيك. وكان ليتحقق فعلياً لولا موافقة طهران المسبقة. وقد رأينا بأم العين فعلاً مشابهاً من فصوله في اليمن عندما كان مرفأ الحديدة يستقبل شحنات الأسلحة الروسية لصالح المتمردين الحوثيين.
لم يتوقف تدفق الأسلحة والعتاد والمعدات الروسية على الأسد، سواء مباشرة أو عبر طهران. وقد أنفقت طهران مبالغ طائلة ثمناً للأسلحة الروسية لنظام دمشق. هذا وإن كانت موسكو (وبكين) توافقان على العقوبات المتخذة طيلة تلك الفترة بحق النظام الإيراني، فكان ذلك لا يضرّ بمصالحها بتأمين مبالغ طائلة من القطع النادر مقابل تزويدها إيران بما تحتاجه من تقنيات تشغيل مفاعلاتها النووية. فلا ننسى أن روسيا هي ثاني بلد في العالم بائع للسلاح.
إن القوات الروسية التي جاءت إلى سوريا قد أتت للدفاع عن نظام الأسد أكثر منه بكثير من ادعاءات موسكو أنها قدمت لمحاربة «داعش». فرجل الـFSB (إف.أس.ب.) الحالية (KGB ك.ج.ب. سابقاً) فلاديمير بوتين ذو الخبرة الطويلة في عالم الأمن والاستخبارات والذي أصبح مسؤولها الأول عام 1996 ثم أصبح رئيساً للوزراء عام 1999 والذي يتزعم حزب «روسيا الموحدة» الأكثري، يعتزم أن ينتزع لروسيا ما فاتها في حروب الخليج وبالأخص عام 2003 (غزو العراق) حيث خرجت صفر اليدين. إنه يعلم علم اليقين أن بشار الأسد لا يمكنه أن يستمر طويلاً في الحكم. ويعتقد بعض المراقبين أن «بوتين» الآن، بعد تدخله العسكري المباشر وهو سابقة لم نعهدها في الشرق الأوسط من قبل روسيا منذ احتلالها أفغانستان، سوف يعمد لعقد مفاوضات مطولة مع الغرب حول المسألة السورية، تدخل فيها المساومات والمماطلة، قد تفضي في نهاية الأمر إلى صفقة دولية تمهد لرحيل الأسد بموافقة إيرانية، من الصعب الآن تصور شروطها وبنودها مسبقاً. فالأسد كما كل رموز الاستبداد وسفك الدماء عبر التاريخ إلى رحيل محتوم، ولو بعد حين. ويبقى السؤال الكبير الملح: أين العرب من كل ما يجري؟