Site icon IMLebanon

تداعيات ازمة النازحين السوريين على لبنان

يعاني لبنان احتقاناً اجتماعياً ناتجاً من أزمة النازحين السوريين. للاحتقان اسباب متعددة، من عدد النازحين بالنسبة الى عدد اللبنانيين، إلى التوزيع الديموغرافي للنازحين وكثافة أعدادهم في المناطق المهمشة أصلاً، إلى عدم وجود دعم مالي كاف، إلى إجراءات حكومية نتيجتها عكسية. فلبنان يحتضن نازحين سوريين أكثر من أي بلد آخر في العالم، بنسبة ٣٨ في المئة من مجموع عدد النازحين السوريين (أكثر من مليون سوري وفق السجلات الرسمية)، والذين يشكلون الآن حوالى ثلث سكان لبنان.

86 في المئة من النازحين يقيمون في الأنحاء التي تعيش فيها أكثرية اللبنانيين المهمشين (٦٦ في المئة). وهناك مشكلة ازدحام سكنية في بعض المناطق. ففي البقاع والشمال، ازداد عدد سكان بعض القرى بنسبة مئة في المئة. في بلدة عرسال مثلاً، التي تشهد اشتباكات متكررة في محيط مخيمات النازحين، يعيش الآن 40 ألف سوري الى جانب 35 ألف لبناني. مقابل هذا، تم دفع أقل من ثلث الاموال الخارجية الموعودة للبنان من أجل دعم النازحين، وفق منظمة العفو الدولية.

هذا الوضع دفع طبعاً الكثير من النازحين نحو السعي لإيجاد فرص العمل، ما خلق انطباعاً بأنهم يأخذون فرص العمل من طريق اللبنانيين. ردود فعل الحكومة اللبنانية كانت باتخاذ اجراءات تحد من حرية عمل النازحين في لبنان، ما دفع الكثير منهم نحو الاقتصاد غير الرسمي. حالياً، ثلث النازحين الذكور عاطلون من العمل، بينما معدل تحصيل أولئك الذين يعملون هو فقط ٤٠ في المئة من الحد الأدنى للأجور، والوضع أسوأ بالنسبة الى الإناث، ناهيك عن الاستغلال والإساءة.

عندما نضع كل هذه العوامل مع بعضها بعضاً، نرى أن الاحتقان الحالي في لبنان بسبب أزمة النازحين أمر متوقع. أصبحت المجتمعات المضيفة ترى النازحين منافسين اقتصاديين وسبب استنزاف للخدمات الصحية والاجتماعية. وما زاد الوضع سوءاً هو الحوادث الأمنية في الشمال اللبناني والبقاع، ما جعل مخيمات النازحين ينظر اليها كبؤر إرهابية. نتيجة كل العوامل الآنفة، تغيرت النظرة العامة للنازحين من ضحايا الى ارهابيين.

ولكن المعضلة ليست فقط مسألة وجهة نظر، ولا في أن أكثرية النازحين تقوم فعلاً بأعمال إجرامية. ببساطة، يستتبع ازدياد عدد السكان في أي بلد بشكل تلقائي ازدياد عدد الأعمال غير القانونية بسبب وجود عدد أكبر من الناس. المشكلة في لبنان هي أن ازدياد عدد الجرائم الناجم عن تفاقم عدد السكان يقابله ازدياد بسبب الأوضاع الاقتصادية والأمنية، حيث إن التهميش الاقتصادي يدفع البعض نحو الجريمة والتنظيمات الإرهابية، وهذا ينعكس سلباً على صورة النازحين بعامة وعلى علاقتهم باللبنانيين.

في حزيران (يونيو) وتموز (يوليو) ٢٠١٤ قامت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بدراسة 446 منطقة تستضيف النازحين في لبنان، ووجدت أن 61 في المئة من هذه المجتمعات أقرت بحصول حوادث توتر أو عنف متعلقة بالنازحين خلال الأشهر الستة السابقة لتاريخ الاستطلاع، أي منذ بداية السنة. وهناك عشرات الحالات الموثقة من جانب المجتمع المدني اللبناني والدولي والأمم المتحدة وغيرها تشير الى استخدام العنف ضد النازحين. فمثلاً، يتم توزيع المناشير في كل المناطق اللبنانية التي تدعو النازحين الى المغادرة، أحياناً تحت التهديد بالموت او اعمال العنف. وهناك الكثير من حالات التهجم على السوريين من أجل طردهم من المناطق أو لحظر تجولهم.

يجب تحليل هذه الأزمة من خلال إطار أوسع هو إطار الدولة، لأن وجود مؤسسات الدولة عامل إيجابي للحد من النزاع. وإذا نظرنا الى الأرقام التي نشرتها الأمم المتحدة عن حالات العنف نجد أن منطقتي بيروت وجبل لبنان حصلت فيهما نسبة حوادث أقل من مناطق أخرى، وهذا يعزى جزئياً الى وجود بلديات فعالة اكثر من نظيراتها في المناطق الأخرى، ولوجود أكبر للشرطة والجيش اللبناني (كما أن النازحين في بيروت والجبل هم اصلاً أغنى من النازحين الموجودين في المناطق النائية، وهذا يساهم في تخفيف حدة التشنج الاجتماعي والاقتصادي).

ولكن هناك حوادث أشير إليها في تقارير منظمة «هيومن رايتس واتش» تمت في وجود الشرطة، التي لم تتدخل لوقفها. فيما هناك الكثير من الحوادث التي لا يتم الابلاغ عنها بسبب خوف النازحين من الانتقام، بينما هناك حالات قامت الشرطة فيها بالرد على المُبلغين بأن ينسوا الأمر. وهناك عدد من المبلغين السوريين الذين اعتقلوا عند الذهاب الى الشرطة للإبلاغ عن مثل هذه الحوادث، بعضهم اعتقل بسبب عدم حمل الأوراق التي تثبت إقامتهم في لبنان والبعض الآخر على رغم حملهم بطاقات الإقامة.

إن مختلف البلديات في لبنان تتعامل مع النازحين بشكل انفرادي، فمثلاً، أصدرت بلدية زحلة قراراً بمنع تجول «الاجانب» في الليل، وهذا طبعاً لا علاقة له بالقانون اللبناني. والمشكلة هنا تقع ضمن اطار عدم وجود سياسة مركزية من جانب الدولة تنظم كيفية تعامل البلديات مع اوضاع النازحين. وفي الكثير من المناطق، ليست الدولة هي من يطبق القانون ولكن الأحزاب أو العشائر أو الأفراد.

وللاحتقان الاجتماعي منحى آخر هو التوزيع الطائفي في لبنان. فحالياً، بسبب كون حوالى ثلاثة أرباع النازحين من الطائفة السنّية، أصبح السنّة يشكلون العدد الأكبر من سكان لبنان، مما يشكل قلقاً من التداعيات السياسية والأمنية لهذا التغيير الديموغرافي، والتي بدأت تُذكّر بأزمة اللاجئين الفلسطينيين وإشكالية تجنيسهم والسماح لهم بالعمل، كما هناك اشكالية الشحن الطائفي ضمن اطار «الدفاع عن النفس»، والذي تستغله جهات عدة سياسية للدعوة إلى التسلح بحجة حماية المجتمعات من الارهاب.

والواضح أن الدولة اللبنانية لا تملك أي خطة مدروسة للتعامل مع هذا الوضع، علماً أن الكثير من النازحين لن يعودوا الى سورية بشكل تلقائي حين انتهاء الحرب الأهلية، حيث إن الكثير منهم فقدوا منازلهم ومصادر رزقهم في بلدهم. هناك بعض البرامج من جانب المجتمع المدني والأمم المتحدة والتي تهدف الى تخفيف حدة التشنج الاجتماعي الناتج من أزمة النازحين. وتشمل هذه البرامج عقد حلقات الحوار بين السكان، وحل النزاعات، والعمل مع المؤسسات التربوية والإعلامية لتوعية الناس ولمكافحة العنصرية، وزيادة الخدمات الاجتماعية والصحية وخلق فرص العمل في مجالات تعتبر غير منافِسة لمجالات عمل اللبنانيين إجمالاً (كصناعة الحرف مثلاً).

هذه البرامج هي أنجح نسبياً في الجنوب حيث هناك بنية تحتية أفضل للمجتمع المدني جراء الأزمات السابقة في هذه المنطقة والتي استدعت إحداث برامج متعددة للمنظمات غير الحكومية. ولكن يعاني الشمال والبقاع وضعاً أمنياً يحد من نطاق تطبيق برامج المجتمع المدني. وإذا نظرنا الى آخر الأرقام المنشورة من جانب الأمم المتحدة نجد أن هذه البرامج في جميع أنحاء لبنان هي بعيدة جداً من تحقيق أهدافها. فمثلاً، حتى شهر أيلول (سبتمبر) الماضي قامت مفوضية الأمم المتحدة بتدريب 843 شخصاً فقط لترويج الانسجام الاجتماعي من أصل الهدف الاساسي الذي كان يقضي بتدريب 7 آلاف شخص، بينما تم إيجاد فرص عمل جديدة لأقل من 5 آلاف شخص من أصل هدف هو 90 ألفاً.

نتيجة هذه العوامل المشتركة هي أن الكثير من المناطق تدخل في حلقة مفرغة: تفاقم الوضع الاقتصادي والأمني يؤدي إلى الاحتقان الاجتماعي، ما يزيد الوضع الأمني تفاقماً، وهذا بدوره يمنع عمل المجتمع المدني بكفاءة، ما يزيد من الاحتقان الاجتماعي والضغط الاقتصادي، ويؤدي إلى المزيد من التردي في الوضع الأمني.

في إطار عدم وجود فعال للدولة اللبنانية والدعم الخارجي على المستوى المطلوب وضيق نطاق قدرة المجتمع المدني، يدخل لبنان في دوامة أزمة مزمنة تهدد العقد الاجتماعي في البلد ومستقبله الأمني. فإذا كان لبنان يفتقر اليوم الى مقومات بيئة حاضنة للحركات الإرهابية المتطرفة، فإن زيادة نسبة التهميش الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي والطائفي في ظل استمرار الازمة السورية ستشكل عوامل يمكن أن تدفع لبنان إلى عدم الاستقرار على المدى البعيد. المسؤولية هنا مشتركة، وجزء كبير منها يقع على عاتق المجتمع الدولي وكيفية تعامله مع الأزمة السورية. وصحيح أن قدرة لبنان على الإلحاح على المجتمع الدولي لنجدته محدودة، ولكن في امكان الحكومة اللبنانية والمجتمع السياسي اللبناني أن يكونا أكثر استجابة لمتطلبات أزمة النازحين. وعسى أن تصبح الأزمة من دوافع الاتفاق السياسي الداخلي في لبنان، حيث إن جميع الأطراف السياسية تتأذى من تداعياتها.