من المؤكد أنّ استقالة الرئيس سعد الحريري المفاجئة من رئاسة حكومة إعادة الثقة، أحدثت زلزالاً سياسياً كبيراً في لبنان، وأعادت خلط الأوراق السياسية محلياً وعربياً، الى ما يشبه الانقسامَ الْحاد بين اللبنانيين الذي أعقب اغتيالَ الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005.
وبنتائج الاستقالة بات واضحاً أنّ «حزب الله» بدأ يشعر بأنّ لبنان خطى الخطوة الأولى نحو الخروجِ من قبضتِه الأمنيةِ والسياسية، وأنّ الساحة اللبنانية التي كثيراً ما اعتبرها الحزب قاعدةً خلفية آمنة له، لينطلقَ منها بميليشياته نحو دعم المحور الإيراني ومشروعِه الصفوي في سوريا والعراق واليمن، باتت تشكّل له كابوساً مرعباً، نتيجة مضمون استقالةِ الحريري وإعلانِها من الرياض، وما أعقبها من موقفٍ عربيٍّ حازمٍ بمجابهة أذرع إيران العسكرية في لبنان وبعض البلدان العربية، وخصوصاً في دول مجلس التعاون الخليجي وشمال أفريقيا، حتى باتت نظريةُ «الحرس الثوري الإيراني» القاضية بمحاربة العرب بالعرب غيرَ صالحة بعد استقالة الحريري، لأنّ لبنان ما قبل الاستقالة شيء، وما بعدها شيء آخر.
وهذا ما عبّر عنه بوضوح الوزير السعودي ثامر السبهان بالقول: «المملكةُ العربيةُ السعودية لن ترضى أن يكون لبنان مشاركاً في حربٍ على السعودية، وسنعامل حكومة لبنان كحكومةِ إعلان حربٍ بسبب ميليشيات حزب الله»، مشيراً الى «أنّ لبنان مختطَف من «حزب الله» وإيران، واللبنانيين قادرون على إيقافِ تجاوزاتِ هذه الميليشيات».
والسؤالُ الكبير هل يمكن لرئيس الجمهورية ميشال عون المؤتمَن على الدستور وعلى سلامة الأراضي اللبنانية وأمن اللبنانيين واستقرارهم أن يُقنع حلفاءه، وخصوصاً «حزب الله» بوقف تدخّله في بعض البلدان العربية؟ أم أنّ هذا القرار يفوق طاقته، ولا يملكه حتى السيّد حسن نصرالله وحلفاؤه، فقرارُ السلم والحرب بالنسبة الى «حزب الله» ومتفرّعاته هو في يد مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي في طهران؟
وهل لا زالت التسويةُ الرئاسية التي تحمّل خطاياها الحريري قابلةً للحياة بعدما خرج عنها الرئيس ميشال عون بإصراره على أنّ سلاح «حزب الله» باقٍ لحين انتهاء أزمة الشرق الأوسط؟ وأعقب ذلك طعنة نجلاء وجّهها اليها وزير خارجيته بعقده لقاءً طويلاً بناءَ لطلبه مع وزير الخارجية السوري ومن دون موافقة رئيس مجلس الوزراء، واستمرارُ تغوّل «حزب الله» وميليشياته في بعض الساحات العربية وخصوصاً تدريبُه لميليشيات الحوثي وقيادتُه للعمليات الصاروخية الموجّهة ضد أراضي المملكة العربية السعودية، والتي كانت من الأسباب الرئيسية لإعلان الاستقالة – الموقف التاريخي للحريري الذي ضحّى كثيراً وتقبّل مُرَّ الصبر لتجاوزاتِ بعض وزراء حكومته بغية الحفاظ على أمن لبنان واستقراره، وهذا ما ورثه الحريري من والده الشهيد الذي عشق لبنانَ وشعبَه حتى الشهادة.
ولا شك في أنّ استقالةَ الحريري هي صرخةٌ وطنية كبيرة وصل صداها الى عواصم القرار الإقليمية والدولية بالقول إنّ على إيران وأذرعِها العسكرية والسياسية أن ترفع يدَها عن لبنان، وأن توقف تدخّلَها في الشأن العربي، وأن تُبقي ثورتَها المجنونة ضمن حدودِها الجغرافية، فطريقُ فلسطين لا يمرّ في صنعاء أو بغداد أو دمشق، وصواريخُ إيران ما هي إلّا صواريخ مشؤومة لمقاتلة العرب بالعرب، وزرع الفتن والإرهاب في كل بلد تسلّل إليها نفوذُ حرسِها الثوري الذي يحلم بإعادة امبراطورية قوروش الفارسي الى شرقنا العربي.
كلُّ هذا دفع مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان لأن يتحرّكَ ويُعلن من دار الفتوى بعد اجتماع المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى برئاسته أنه متفهِّم لاستقالة الحريري وداعمٌ لموقفه الوطني الحريص على بناءِ الدولة، وبسطِ سلطتها وسيادتها على كل أراضيها.
والعملُ مع بعض القوى لاحتواءِ تداعياتِ الاستقالة بموقفٍ وطنيٍّ جامع، التقى فيه مع القيادات الإسلامية والمسيحية الفاعلة، بدعوة الجميع الى مزيدٍ من الهدوء والتبصّر والحكمة، ومعالجةِ الخلل الداخلي، ووضعِ حدٍّ للتدخّل الخارجي في الشأن اللبناني لتستقيمَ الأمورُ الى طبيعتها بحفظ حقوق الجميع، ولتعودَ عجلةُ النهوض بمؤسسات الدولة القوية والوطنية العادلة والجامعة. وهذا هو الدور التاريخي لمفتي الجمهورية وأركان دار الفتوى المؤتمَنة على دورِ لبنانَ العربي، والحفاظ على حقوق المسلمين خصوصاً واللبنانيين عموماً.
ودورُ دار الفتوى الوطني هذا، هو استكمالٌ للدور الريادي الذي اضطلعت به الدارُ في عهد المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد الذي كان دورُه كما هو الآن دور مفتي الجمهورية جامعاً وموجِّهاً وحاضناً لكلّ مكوّنات الشعب اللبناني، ليبقى هذا الوطنُ عربيَّ الوجه واللسان والدور، وساحةَ لقاء، وواحةَ حوارٍ وتلاقٍ بين كل التوجّهات الساعية الى بناء الإنسان المؤمِن والمؤتمَن على هذه الأرض المباركة.
ومن المؤكّد أنّ الرأيَ العام اللبناني عموماً والإسلامي خصوصاً، يشعر بكثير من الأمان والاطمئنان بسبب سياسة الاحتواء التي تنتهجُها دارُ الفتوى للحفاظ على الوحدة الوطنية، والعيش الواحد وإبعاد لبنان من المحاور الإقليمية وتكامله مع محيطه العربي، إذ لا يمكن لأيِّ فئة أو حزب أو جهة أن تسلخَه عن أمّته العربية بكل ما لها وما عليها.