ذكرَت «المركزية» أنّ أحد كبار الكرادلة رفع تقريراً إلى البابا بنتائج اجتماعاته في بيروت مع البطريرك الماروني والقادة الموارنة وقيادات لبنانية أطلقَ عليه تسمية «التقرير الأسود» نسبةً لِما تضمّنه من أجواء سوداوية عن أوضاع المسيحيين في لبنان والمنطقة. ولكنْ هل من جديد في هذا التقرير، أم هو تكرار لنغمة جَلد الذات إيّاها من دون أيّ أفكار عملية؟
التعليق على ما اصطُلح على تسميته بـ»التقرير الأسود» مرَدّه إلى نَسبه للفاتيكان، الأمر الذي يجعل مناقشة ما وردَ فيه من أفكار مسألة بغاية الضرورة، خصوصاً انه حمل في طيّاته مجموعة تناقضات، وحفل بتوصيف مجتزأ للواقع في سياق مزيد من تيئيس المسيحيين، ولم يرسم بطبيعة الحال خريطة طريق للخروج من هذا الواقع، بل لم يقدّم أيّ فكرة عملية خارج إطار الأفكار العمومية المكررة.
الإشارة الأولى تحدثت عن «تغييب دور بكركي على مستوى القرار الوطني المسيحي أمام تقدّم واضح للقادة الموارنة الذين يتخطّونها بسبب غياب الموقف والرؤية والحزم وانحلال العصب المسيحي لدى الزعماء الموزّعي الولاء بين المكوّنين الطائفيين السني والشيعي وبين المحاور الاقليمية الممثلة بسوريا وايران والسعودية، ما أفقدَ المسيحيين دورهم الفاعل وحضورهم المميّز على المستوى الوطني العام».
إذا كان مبرراً لحراك غير مسؤول أن يعمّم الاتهامات على كل الطبقة السياسية على طريقة «كِلُّن يعني كِلُّن»، فغير مبرّر على تقرير يفترض انه صادر عن أعلى مرجعية مسيحية في العالم التعميم وتحميل المسؤوليات بهذا الشكل، فضلاً عن محاكاة الغرائز المسيحية بهدف واضح يبغي النَيل من القيادات المسيحية من خلال تحميلهم مسؤولية تراجع الدور والحضور المسيحيين نتيجة التحاقهم بالسنّة أو الشيعة، السعودية أو إيران.
فعدا عن كون هذه النظرية قديمة وأنّ مَن حاول استخدامها لم ينجح بضرب صدقية القيادات المسيحية ولا بزيادة شعبيته المسيحية، فإنّ تكرارها لا يقدّم ولا يؤخّر ليس فقط لأنه لا يجوز مساواة السعودية بإيران، و«المستقبل» بـ«حزب الله»، بل لأنّ التحالف مع هذا الفريق أو ذاك لا يعني الذوبان فيه، ولأنّ المنطقة بأسرها خاضعة لميزان القوى السني-الشيعي والسعودي-الإيراني، وما عجزت واشنطن والتحالف الدولي عن تغييره، لن يكون باستطاعة المسيحيين أن يفعلوه، إلّا إذا كان المقصود النأي بالنفس عن المحورين، وهذا النأي لن يبدّل شيئاً في الوقائع، لأن لا قوّة في العالم قادرة، على سبيل المثال، على إقناع «حزب الله» بالخروج من سوريا وتسليم سلاحه، فيما المسيحيون بحاجة إلى التحالف مع أي دولة تدعم القضية اللبنانية.
فلبنان هو جزء لا يتجزأ من الصراع القائم في المنطقة، وإعلان جماعة النأي بنفسها لا يحقق النأي بلبنان، فضلاً عن أنّ هذا الصراع ليس من طبيعة سلطوية، بل يتصل بدور لبنان كرأس حربة في محور الممانعة أو دولة طبيعية على غرار معظم دول العالم، ومن ثم التحييد سقط منذ العام ١٩٦٩ ولا يزال، وإعادة الاعتبار له يتطلّب أمراً من أمرين: توافق جميع اللبنانيين على التحييد، وهو من سابع المستحيلات في ظل الكلام المتهكّم لقادة «حزب الله» عن التحييد، كما دور الحزب نفسه. والأمر الثاني يتصل بإعلان المجتمع الدولي لبنان دولة حيادية وتطبيقه بالقوة، وهو من عاشر المستحيلات في ظل العجز والتخبّط الدوليين.
وعندما يتهم أيّ طرف غيره بأنه لا يتمتع بـ»الموقف والرؤية والحزم» يفترض ان يقدّم في المقابل رؤية عملية متكاملة تتجاوز الاتهامات. أمّا الكلام عن «انحلال العصب المسيحي» فهل يفترض ان يُفهم من ورائه بأنّ القادة لا يستنفرون عصب المسيحيين لمواجهة عصب المسلمين مثلاً؟
الإشارة الثانية اتهمت القادة المسيحيين بتغييب دور بكركي، فيما هذا الاتهام مضحك لسببين: لأنه يفترض أن يختلف دور القادة عن دور بكركي التي تتعاطى الشأن الوطني لا السياسي. ولأنّ الأدوار تنتزع ولا تقدّم، حيث انّ أحداً لم يكلِّف بكركي انتزاع لبنان الكبير وإخراج الجيش السوري من لبنان، وبالتالي من مسؤوليتها إعادة الاعتبار لدورها وحضورها وفعاليتها.
الإشارة الثالثة دَعت إلى الإسراع في «انتخاب رئيس ماروني من نبض الشارع يتمتع بالعصب المسيحي، ومن خارج الاصطفافات السياسية ونادي القادة الاربعة، رئيس مقبول من الجميع قادر على إعادة تثبيت الحضور المسيحي في لبنان وانعكاسه على سائر دول المنطقة».
وهذه الإشارة تحمل بحدّ ذاتها مجموعة تناقضات من قبيل: كيف يمكن التوفيق بين رئيس يتمتع بالعصب المسيحي وأن يكون من خارج القادة الأربعة، أو ان يتمتع بالعصب ويكون مقبولاً من الجميع؟ وكيف يمكن ان يعكس نبض الشارع ويكون من خارج الاصطفافات السياسية؟
وإلى جانب انّ المقصود بالمواصفات استهداف القادة الأربعة، كان بإمكان التقرير القول ببساطة انّ الانقسام السياسي لا يسمح بوصول أيّ مرشح قريب من هذا المحور أو ذاك، الأمر الذي يستدعي البحث عن مرشح وسطي يكون مقبولاً من المحورين.
وقد تكون الإشارة الأكثر بلاغة هي «الإسراع في انتخاب رئيس»، وكأنّ عدم الانتخاب ناتج عن تباطؤ مقصود، فيما كان على التقرير أن يشير صراحة الى انّ أحد الأسباب الرئيسية للفراغ الرئاسي تَمسّك العماد ميشال عون بترشيحه والذي يلقى دعماً من «حزب الله»، فيما السؤال أيضاً عن موقف الحزب في حال تراجع عون عن ترشيحه، وبالتالي لماذا مساواة القادة المسيحيين بالتعطيل، طالما انّ المعطّل معروف؟
الإشارة الرابعة تحدثت عن «ظهور بارز للتطرف الديني والمذهبي في المنطقة واضطهاد المسيحيين لأنهم من الاقليات (…)». وهذا الكلام على رغم صحته، لكنه مُنتقص، لأنّ ما يصيب المسيحيين يصيب كل المسلمين وفي طليعتهم السنّة والدروز، وبالتالي وضع الأمور وكأنها استهداف للمسيحيين غير صحيح.
وإذا ما أضيف إلى كل ما ورد من تناقضات في «التقرير الأسود»، ما نقل عن البابا من تحميله المسيحيين مسؤولية عدم انتخاب رئيس جديد بسبب تشرذمهم وانقساماتهم، فذلك يعني أنّ على القوى المسيحية المعنية مسؤولية التواصل مع الفاتيكان لتبيان صحة ما نشر أو عدمه.
ففي حال صحته يعني أنّ هذه القوى لم تقم بدورها المطلوب حيال الفاتيكان، وفي حال عدم صحته يقتضي إعادة توضيح الموقف الفاتيكاني وتصويبه، مع الإشارة إلى أنّ المسيحيين في لبنان اليوم هم في أفضل وضع منذ 25 عاماً… وللبحث صِلة.