كان الرئيس كميل شمعون يتولّى إدارة الجمهورية من مقرّها المستأجر في قصر القنطاري في وسط بيروت عندما وضع في العام 1956 حجر الأساس لبناء مقرّ رئاسة الجمهورية في بعبدا. قبله كان الرئيس بشارة الخوري يقيم في ذلك القصر أيضاً عندما تقرّر شراء الأرض في تلك التلة المشرفة على بيروت وضاحيتها من أجل أن يكون عليها مقرّ رسميّ للرئاسة بدل أن تبقى مقيمة بالإيجار.
صحيح أن القصر كان بالإيجار ولكن الرئاسة لم تكن للإيجار. يبقى المقر رمزاً ولكن الرمز الأول يبقى في الرئاسة. داخل القصر أو في خارجه يبقى جوهرها واحداً لا يتبدّل ولا يتغيّر. هنا تكمن المسألة وهنا تبرز السيادة وهنا يكون القرار.
بين القصر والبيت
في قصر القنطاري كانت الرئاسة الأولى مع بشارة الخوري. وفي ذلك القصر فقدت الرئاسة هيبتها عندما تم الخروج عن الدستور وارتضى الرئيس الأول التجديد لنفسه. وفي ذلك القصر استعادت الرئاسة هيبتها عندما اختار الخوري أن يستقيل. وإلى ذلك القصر دخل كميل شمعون رئيساً كامل المواصفات. عندما وضع الحجر الأساس لبناء المقر الدائم في بعبدا لم يكن يحلم بأنه سيقيم فيه ولا بأنّه سيجدّد أو يمدّد الولاية. لم يكن قد بنى بعد دارته في السعديات عند ساحل الشوف ولكنّه كان أيضاً قد بدأ العمل لبنائه حتى يستقرّ فيه بعد الرئاسة.
بعد أقل من عام على وضع حجر الأساس كانت أسس الجمهورية قد بدأت تهتز على وقع التفجيرات الأمنية والسياسية الممهدة لحوادث 1958 التي أدّت تلقائياً إلى تجميد العمل ببناء قصر بعبدا.
لم ينتقل الرئيس المنتخب فؤاد شهاب إلى قصر القنطاري. كان بيته في جونيه وكان يريد أن يكون مقرّ الرئاسة قريباً منه لذلك اختار قصراً صغيراً متواضعاً بين صربا وزوق مكايل في كسروان. كان يمارس مهامه الرئاسية في ذلك القصر وينتقل ليمضي ليلته في بيته. معه لم تكن الرئاسة تنام في القصر الرئاسي ولكنها أيضاً لم تكن تنام بل تنتقل معه من المقر إلى البيت. فعلى الرئيس ألا ينام وأن تبقى الرئاسة صاحية وحاضرة وجاهزة وواعية. مكتفياً بالإقامة في ذلك المقر وبدوائر قليلة في هيكلية الرئاسة وبعدد قليل من المعاونين ومن دون أن تكون لديه حاشية عائلية وغير عائلية تخلى شهاب عن متابعة العمل في قصر بعبدا. كان حريصاً على كرامة الرئاسة أكثر من حرصه على رمزية المقر.
كان قصر الزوق ملتصقاً بصورة فؤاد شهاب. على قياسه وتواضعه. بعد انتخابه خلفاً له ارتأى الرئيس شارل حلو في العام 1964 أن ينتقل إلى مقرّ أكبر وأوسع كأنّه كان منذ بداية عهده لا يريد أن يبقى في “عباءة” فؤاد شهاب وأن يتحرّر من وصايته عليه في انتخابه بعد توصيته، أي شهاب، للنواب المؤيدين له ولنهجه برفضه التجديد أو التمديد مقترحاً اسم الرئيس الجديد. كان له ما أراد اعتقاداً بأن طاقمه السياسي والأمني يمكن أن يحكم من خلاله. ولكن الحلو سلك طريقاً متعرجاً للخروج من رئاسة شهاب إلى رئاسته هو. كان مقرّ الرئاسة في قصر نورا في سنّ الفيل مجرّد محطة انتظار. بعد انتخابه أوعز الرئيس حلو باستكمال بناء قصر بعبدا. في كانون الثاني 1969 كان الرئيس الأول الذي ينتقل للإقامة فيه. لم يكن من الوارد أبداً عند الرئيس الذي طغت على صورته روحانية الراهب اليسوعي أن يفكّر بالتمديد أو بالتجديد. ولكن بعد أشهر على افتتاح ذلك القصر وتدشينه كانت السيادة تهتزّ مع توقيع اتفاق القاهرة في تشرين 1969. كانت الرئاسة تستعيد مقرّها ورمزها وتفتقد إلى جوهرها.
القصر المهجور
عندما دخل الرئيس سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا بعد عودته من قمة القاهرة التي عقدت في 27 ايلول 1970 كان ثمة اعتقاد أنه أتى بانتصار سياسي لكي يعيد الوهج إلى الجمهورية. تلك القمة كانت طارئة بعد الإشتباكات التي حصلت في الأردن بين الجيش الأردني والمسلحين الفلسطينيين. هناك اختار الملك حسين مالك زمام الأمور في مملكته أن يحسم الوضع عسكرياً وألّا يقبل بانتهاك سيادة الأردن. أخذ قراره ونفّذه. في آخر يوم من ولايته ذهب الرئيس الحلو للمشاركة في اللقاءات التمهيدية للقمّة لينتقل بعده الرئيس الجديد في 23 أيلول تاريخ بدء ممارسة صلاحياته الدستورية لمتابعة أعمال القمة. كان لبنان قد سار عكس ما فعله الملك حسين ولم يكن الرئيس الجديد ليدرك بعد أن إنهاء أحداث الأردن سيكون على حساب لبنان وأن ما كان في اتفاق القاهرة سيوسّع الهوة بين سيادة الدولة وقوة الدويلة الفلسطينية الناشئة والمستفيدة من دعم قسم كبير من الشارع اللبناني والرأي العام الإسلامي والعربي. دخل فرنجية إلى القصر وفي روزنامة عهده أن يكون ذلك الرئيس الزغرتاوي القوي الواصل إلى الرئاسة بديموقراطية الصوت الواحد وبتحقيق انتصار على نهج فؤاد شهاب ومنع عودته إلى الحكم بعد تحميله مسؤولية إضعاف الدولة اللبنانية في محاولة لإيصال رئيس شهابي إلى قصر بعبدا.
وإذا كان يحسب للرئيس فرنجية أنه حمى منافسه على كرسي الرئاسة الياس سركيس في منصبه في حاكمية مصرف لبنان فإنّه يؤخذ عليه أنه أضعف رئاسته وعهده من خلال محاسبة ومحاكمة ضباط المكتب الثاني في الجيش الأمر الذي انعكس ضعفاً في معنويات المؤسسة العسكرية. ومع ذلك حاول فرنجية استعادة القرار السيادي عند التصدّي للممارسات المسلحة الفلسطينية في أيار 1973 ولكن المحاولة انتهت أيضاً إلى الفشل بعد تدخل الدول العربية لمنع استكمال العملية العسكرية. وعلى عكس ما حصل في الأردن كان على لبنان أن يغرق في الحرب في 13 نيسان 1975.
في منتصف آذار 1976 تعرض قصر بعبدا للقصف. اضطر الرئيس فرنجية إلى الإنتقال إلى مقر آخر. انتهى عهده ولم يعد إلى بعبدا. عندما تسلم الرئيس الياس سركيس مسؤولياته عاد إلى القصر المهجور على ضوء الشمعة. وأقام في جناح صغير تم ترميمه في البداية ولكن صورة القصر بقيت كبيرة في عهده. لم يغادر موقعه حتى في ظلّ الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982. عندما انتخب الرئيس بشير الجميل في 23 آب من ذلك العام نصحه سركيس بالإقامة في القصر ولكنه لم يفعل. اغتيل في 14 ايلول لينتخب شقيقه أمين خلفاً له. بقي في القصر على رغم تعرضه للقصف والتهديد ولكنه في نهاية ولايته سلّم السلطة لحكومة العماد ميشال عون الذي انتقل من وزارة الدفاع في اليرزة إلى قصر بعبدا حتى خرج منه بالقوة في 13 تشرين الأول 1990.
انتخب الرئيس رينيه معوض في 5 تشرين الثاني 1989 رئيساً للجمهورية بعد اتفاق الطائف. انتقل من إهدن إلى بناية في الرملة البيضا. ربما لو انتقل إلى قصر بعبدا لما كان تم اغتياله ليكون الرئيس الثاني للجمهورية الذي يغتال قبل الإنتقال إلى بعبدا. بعده الرئيس الياس الهراوي انتخب في شتورة وأقام موقتاً في بناية الرملة البيضا. شعوراً منه بأهمية العودة إلى بعبدا بدأ ورشة ترميم القصر الجمهوري حتى لا تبقى الرئاسة مقيمة في مقر يملكه رئيس الحكومة رفيق الحريري. في تموز 1993 عاد الهراوي إلى القصر ولكن الرئاسة بقيت فاقدة لهيبتها ودورها. بعده لم يتبدّل الوضع مع الرئيس أميل لحود الذي سلّم السلطة إلى الفراغ. صحيح أن البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لم يوافق على طلب استقالته بعد انتفاضة 14 آذار 2005 ولكنه بعد وقت ذهب إليه ونصحه بالإستقالة ولكنه لم يفعل.
في 25 ايار 2008 دخل الرئيس ميشال سليمان إلى قصر بعبدا رئيساً بعد تسوية الدوحة التي أتت نتيجة غزوة “حزب الله” في 7 أيار. قبل نهاية عهده طالب باستراتيجية واضحة للدفاع وانتقد الثلاثية الخشبية التي تقول بالجيش والشعب والمقاومة فتعرّض القصر للقصف بالصواريخ التي لم يتمّ الكشف عن مطلقيها. انتهى عهده إلى فراغ جديد حتى انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016.
قبل الثورة وبعدها
كان من المفترض أن تعود الرئاسة كاملة إلى القصر بعد الفراغ. ولكن بعد ثلاثة أعوام كان الرئيس يواجه ثورة في الشارع اندلعت في 17 تشرين الثاني 2019. لم تعد المسألة تتعلق بالفراغ أو بعدمه بل بقدرة الرئاسة على ممارسة الحكم. كان من المفترض أن يكون عهده عهد الإنقاذ ولكنه دخل في الإنهيار. ليس العهد وحده ينهار بل الجمهورية والرئاسة. ولم تعد المسألة تتعلّق بمن يقيم في القصر بل بمدى القدرة على التحكّم بمسار الأمور. ولم تعد المسألة تتعلّق بما إذا كان من الواجب احترام مقام الرئاسة بل بما يجب أن يقوم به الرئيس. المسألة تتعلق بالمضمون أكثر مما تتعلق بالشكل والإطار العام. في 2 أيلول 2019 دعا الرئيس عون إلى لقاء عام لرؤساء الكتل النيابية للبحث في جوهر المشكلة الإقتصادية ولكن التخبّط استمر ولم تكن الثورة قد اندلعت بعد. الأربعاء الماضي 6 ايار الحالي كرّر الرئيس الدعوة لرؤساء الكتل بعد انهيار الهيكل ولكن لا يبدو أن هناك معالجة جدية للأزمة. ثمّة فراغ جديد في قصر بعبدا لم يملأه حضور الرئيس. فراغ لا يتعلق بوجود الرئيس فيه من عدمه. ثمة فراغ على صعيد الإمساك بزمام الأمور وثمة فراغ في ممارسة المسؤولية وإدارة الأزمة. لذلك وجب التمييز بين الجمهورية ورئاسة الجمهورية وبين الرئيس من أجل أن تكون الرئاسة سيدة نفسها وسيدة الجمهورية في قصر ليس بالإيجار.