عندما تبنّى الرئيس سعد الحريري ترشيح النائب ميشال عون لرئاسة الجمهورية لقي معارضة قوية من «تيار المستقبل» الذي يتزعمه ومن جمهوره لأسباب عدّة تتعلق بنهج عون وبتحالفاته وتصرّفاته. وما لبث أن وافق الجميع على مضض على هذا الخيار بعد أن وجدوا لدى الحريري تصميماً على السير به لأسباب عامة وخاصة.
وتعود الأسباب العامة إلى الأوضاع القاسية التي وصلت إليها البلاد بعد فراغ رئاسي جاوز السنتين، من عدم استقرار أمني وجمود اقتصادي ووضع مالي على شفير الانهيار. كما أنّ الوضع في سوريا كان يتطوّر بسرعة والممسكون بالأرض من الروس والإيرانيين وإلى حد ما الأميركيين والأتراك كانوا يعملون على تسوية سياسية تشمل تعديل الدستور والنظام القائم وتطعيمه بقيادات من المعارضة المعتدلة، وكان لا بدّ من وجود رئيس للجمهورية يواكب هذه التسوية لإبقاء لبنان بعيداً عن أي تداعيات محتملة.
وتكمن الأسباب الخاصة في لهف الحريري للعودة إلى السرايا الحكومية التي أُجبِرَ على مغادرتها قبل خمس سنوات من غير أنْ يحقّق ما كان يصبو إليه من إنجازات وإصلاحات. وهذا ما دفعه إلى ترشيح أو تبنّي ترشيح قيادة مارونية لتولي سدة الرئاسة الأولى، بحيث تكون له اليد الطولى في وصولها إلى قصر بعبدا، وبالتالي عودته إلى السرايا الكبيرة. الأمر الذي يعيده إلى الحركة السياسية الداخلية كلاعب رئيس فيها.
وتحقق مخطّط الحريري بعد تسوية عقدها مع مرشّح «حزب الله» النائب ميشال عون تبنّى بموجبها ترشيحه وانتخابه رئيساً للجمهورية. وكان الأمل الطاغي على الحريري من وراء هذه التسوية استعادة دوره السياسي، وحلّ مشكلاته المالية العالقة في المملكة العربية السعودية.
والسؤال المطروح: هل حقّقت التسوية ما كان يصبو إليه الحريري من نفوذ في السلطة، وإنجازات في الملفات الحياتية الحيوية، وهل ساهمت في حلّ مشكلاته المالية؟ فكل الأمور تشير إلى أنّ التسوية لم تحقق للحريري ما أراده منها، فملفات الخدمات من كهرباء ومياه ونفايات تراوح مكانها، وهي ما زالت عرضة للكباش السياسي. وهو يتعرّض في أمور كثيرة إلى التهميش بحيث أصبح نفوذه في السلطة أقل من النفوذ الذي يعطيه موقع رئاسة مجلس الوزراء لشاغله. كما لم يؤدِ وجوده في السرايا إلى حلّ مشكلاته في السعودية.
وتشير الأمور إلى أن زوج إبنة عون ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل هو الذي يُدير معظم ملفات الجمهورية بطريقة لا لبس أو غموض فيها، واضعاً نُصب عينيه رئاسة الجمهورية المقبلة، فهو يعمل على ترسيخ قواعده في معظم إدارات الدولة ومؤسّساتها من خلال تعيين أنصاره في مواقع أساسية فيها، خصوصاً تلك التي هي على تماس مع المواطنين. الأمر الذي يمكنه من تقديم خدمات لهؤلاء المواطنين وكسب ودهم وأصواتهم في الانتخابات النيابية المقرّرة في شهر أيار 2018. وهدف باسيل الرئيس رئاسة أكبر كتلة من النواب المسيحيين، تخوله بأن يكون رئيس الجمهورية المقبل بصفته الرجل القوي والزعيم الأبرز في طائفته.
ولو دقّقنا في التعيينات والتشكيلات التي أجرتها حكومة الحريري نجد أن مجمل المسيحيين المعيّنين هم من جماعة باسيل، فهو يحتكر لتياره المواقع والمناصب والمكاسب. وبدأ بالانقلاب على «تفاهم معراب»، الذي حقّق المصالحة بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، بعد أن استنفد الغاية منه بترشيح قائد القوات سمير جعجع عون لرئاسة الجمهورية، من أجل إبعاد نائب زغرتا سليمان فرنجية مرشّح الحريري الأول عن الرئاسة، ما يهدّد قواعد جعجع في شمال لبنان.
ويخوض باسيل منذ اليوم معركة الرئاسة المقبلة بالعمل المبرمج على تقوية موقعه في الإدارة والمؤسّسات الرسمية، وحصول تياره على أكبر كتلة نيابية مسيحية في الانتخابات المقبلة، وتقليم أظافر القطبين المارونيين جعجع وفرنجية من خلال تقليص نفوذهما في دوائر الدولة وتحجيم كتلتيهما النيابيتين. ويستخدم في معركته الخطاب العنصري والطائفي التحريضي لشد العصب المسيحي، وهو الخطاب ذاته الذي استخدمه عمه عون من قبل.
ويسعى باسيل إلى تعبيد الطرق أمامه إلى بعبدا، بالعمل على نيل موافقة «حزب الله» على ترشّحه، بدلاً من فرنجية مرشح الحزب المحتمل، بتأييده استراتيجية الحزب في لبنان، وبقاء السلاح بحوزته، ومشاركته في القتال بسوريا، وغضّه الطرف عن تدخّلاته في دول مجلس التعاون الخليجي. كما يوافق الحزب الرأي بفتح قنوات الحوار مع النظام السوري بشأن عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، بحيث يساهم التطبيع مع النظام في فتح الباب أمامه على المجموعة العربية. ولم يكتفِ باسيل بهذا الأمر، بل تحدّى قرار الحكومة بالنأي بالنفس في الأزمة السورية، واجتمع بناءً على طلبه مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم من دون علم رئيسه الحريري، الذي لم يجد وسيلة للتعبير عن استيائه غير الاعتراض والامتعاض.
ولم يكتفِ باسيل بأوراق الاعتماد التي قدّمها إلى الحزب المهيمن على الدولة وإلى النظام الذي بدأ يستعيد دوره في لبنان، بل أقدم من خلال وزير العدل سليم جريصاتي على إزاحة قاضيين قطبين كبيرين في القضاء اللبناني من مركزيهما، انتقاماً منهما لدورهما في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهما شكري صادر الذي كان يشغل رئاسة مجلس شورى الدولة، وهو من منشئي المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والياس عيد المحقق العدلي في جريمة اغتيال الحريري الأب.
والمستهجن في الأمر موافقة الحريري الإبن على الإقصاء. ولا ندري ما هي الخطوة التالية التي سيقدم عليها باسيل لإرضاء الحزب والنظام المتهمين بقتل الحريري الأب، فهل ستكون بالامتناع عن تمويل المحكمة؟
ويساهم عون في دعم أوراق اعتماد صهره إلى الجهات النافذة من خلال تناغمه مع «حزب الله» في خياراته الإقليمية، وتأييده كل خطوات باسيل ومواقفه، وصولاً إلى القول بأنّ سلاح «حزب الله» ضروري، وإنّ إيران لا تتدخّل في الشؤون اللبنانية، والكل يعلم بأنّ لبنان واقع فعلياً في القبضة الإيرانية من خلال الحزب الذي يشكل ذراعها العسكري في الإقليم.
ختاماً، يتصرّف باسيل بصفته الآمر الناهي في القضايا الداخلية التي لا تتعارض مع أهداف «حزب الله» وكأنّ الجمهورية جمهوريته، والحزب يتصرّف بالطريقة ذاتها في القضايا الاسترتيجية والخيارات الإقليمية وكأنّ الدولة دولته، والحكومة تتخبّط في ملفات الخدمات العامة المزمنة وفي حماية الاقتصاد الوطنيومنع الليرة من الانهيار.
ويتعرّض الحريري، نتيجة ما يقدّمه من تنازلات غير مبرّرة ومن دون مقابل إلى الحكم وصهره المدلل، إلى الانتقادات في تياره وبيئته، ما أثّر على وضعه فيهما، فهل ينتفض؟