Site icon IMLebanon

«الطبيعة تكره الفراغ» واللبنانيون يكرهون الفارغين

 

حاولت تأريخ الفراغ الرئاسي بالحقائق والتواريخ والأرقام بعد مداهمة الشتاء اللبنانيين ودولتهم بالطوفان المتعدّد الألوان والروائح والصفات البذيئة فوق فقرهم وعتمتهم وفراغهم العام مقتبساً كلمتين للشاعر أدونيس تعبّران عن واقع الفراغ في لبنان: «فراغ زمان بلادي فراغ، وتلك المقاهي وتلك الملاهي فراغ، وهذا الذي ذُلّ في أرضه فأنكرها واستكانا» (من «أوراق في الريح»، 1988).

قال أرسطو أنّ «الطبيعة تكره الفراغ، والحياة أيضاً لا تحتمل الفراغ ولا تأبه بالفارغين لأننا في سباق أزلي أبدي نحو النهاية المجهولة التي نفني أعمارنا في محاولة معرفتها وتصحيحها»، فكيف إذا كان الفراغ متراكماً خلال تواريخ التسلّم والتسليم بين رؤساء الجمهوريات اللبنانية الـ13 منذ الإستقلال في الـ1943 حتى 31/10/2023 بعدما مضى عام على خروج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا وها نحن ندور مجدّداً في انتظارات ودوّامات سياسية ومذهبية تشحن الفراغ في قصور نواب الزمان من التفاهم على رجل يمكث رئيساً في بعبدا في أزمنة الطوفان بصيغ الجمع؟

 

لم يتسلّم كميل شمعون (1900-1987) سدّة الجمهورية اللبنانية في مقرها الأول في القنطاري من سلفه الرئيس الأول للجمهورية بشارة الخوري (1890-1964) الذي انتخب بعد الإستقلال ممثلاً الكتلة الدستورية من 23/9/1943 الى 20/9/ 1949 ليُعاد انتخابه من 22/9/1942 حتى 21/9/1952 ليستقيل مستبقاً انتخاب كميل شمعون ويؤلّف حكومة برئاسة قائد الجيش فؤاد شهاب (1902-1973) الذي ترأس الجمهورية 5 أيام فقط من 18/8/1952 إلى 22 منه، انتقلت بعدها من فؤاد شهاب إلى كميل شمعون (23/8/ 1958) ثم عاد كميل شمعون وسلّمها إلى الرئيس فؤآد شهاب الذي عُرف بنظافة عهده رئيساً من 23/9/1958 حتى 22/9/1964، ليستمرّ النهج الشهابي قويّاً مع انتخاب شارل الحلو (1913-2001) رئيساً حتى 22/8/1970 ضامناً النهج الشهابي في بناء الإصلاح العام.

 

كان من المتعسّر التسلّم والتسليم بين الرئيس المغادر شارل الحلو وخلفه الرئيس المنتخب سليمان فرنجية (1910-1992) لأنّ الحلو كان في 23/9/1970 ممثّلاً لبنان في القمة العربية الطارئة التي عُقدت نتيجةً للأحداث التي وقعت في الأردن مع الفلسطينيين. وكان لا بدّ لشارل الحلو من العودة لتسليم كرسي الرئاسة للرئيس الجديد سليمان فرنجية أوّل من دشّن قصر الرئاسة في بعبدا على عجل والتحق رئيساً بالقمة العربية المذكورة لمتابعة أعمالها. امتدّت سنوات حكمه من 22/8/1970 إلى 23/8/1976 الحافلة بالأحداث التي لم توفّر له إقامة هانئة في القصر الرئاسي الذي تعرّض للقصف مع اندلاع حروب في الـ 1975 فانتقل نحو القصر البلدي في ذوق مكايل ثمّ إلى قصر خاص بفتوح كسروان. وقضت الأحداث الخطيرة أن يُنتخب إلياس سركيس (1924-1985) رئيساً للبلاد في 8 أيار 1976 أي قبل انتهاء ولاية فرنجية بـ5 أشهر.

عاد الرئيس سركيس في 23/9/1976 ليفتح قصر بعبدا المهجور ولم يبارحه حتى عند وصول القوات الإسرائيلية إلى قبالة القصر إبّان اجتياحها لبنان في الـ1982. مكث هناك رئيساً حتى نهاية عهده ولم يتمكّن من تسليم خلفه بشير الجميل (1947-1982) المنتخب في 23/8/1982 فاغتيل في 14/8/1982، ليتسلّم مكانه شقيقه أمين الجميل (1942-..) رئاسة الجمهورية من 23/8/1982 إلى 22/8/1988. ومنذ ذلك التاريخ تعطّلت كليّاً إمكانيات انتخاب رئيس جديد للجمهورية، فكان أن ترك أمين الجميل السلطات للعماد قائد الجيش ميشال عون في 22/8/1982 الذي تمّت إزاحته عن القصر نحو فرنسا في 13/10/1990.

وكان لا بدّ من اتفاق الطائف وإقرار الدستور اللبناني الجديد حيث انتخب رينيه معوّض (1925-1989) رئيساً لم يتسلّم الجمهورية ولم يسلّمها ولم يمارس حكمه إلّا من 5/11/1989 إلى 22 منه يوم اغتياله. انتخب بعده إلياس الهراوي (1926-2006) في «بارك «أوتيل» بشتورا في البقاع ولم يسلّمه السلطة أحد وبقي القصر الجمهوري في فراغ انتقل بعدها الهراوي إلى قصر مؤقت فيما سُمّي بيروت الغربية آنذاك ثم صعد إلى قصر بعبدا ودام حكمه 9 سنوات من 24/11/1998 الى 24/11/1998.

انتُخب قائد الجيش إميل لحّود (1936-..) رئيساً من 24/11/1998 الى 23/11/2007 وخرج بدوره من قصر بعبدا في الدقائق الأخيرة من عهده مصرّاً بل متحدّياً بـ«ألاّ يخرج إلاّ جثّةً من هناك»، وهكذا دخل لبنان مجدّداً في فراغٍ دام 6 أشهر حتى انتخاب الجنرال ميشال سليمان (1948-..) في 25/5/2008 الذي لم يتسلّم سدّة الرئاسة بدوره ولم يتمكّن من تسليمها سوى للفراغ الذي تمطّى يتقلّب بالجمهورية وسلطاتها ونزاعاتها واللبنانيين سنتين ونصف تقريباً أي حتّى 30/10/2016 بعد التوافق على انتخاب العماد ميشال عون الذي خرج من قصر بعبدا بانتهاء ولايته في 31/10/2022 كما ذكرنا لتغرق الجمهورية مجدّداً في الفراغ القاتل.

إنّها جمهورية الفراغ الذي صار لازمةً للعهود الرئاسية مقيمة في بنية الدستور لا يمكن إهمالها أو استمرار تحمّل مخاطرها بالإنقسامات التي هشّمت مفاهيم الجمهوريات وقِيَمها الإنسانية والحضارية.