«إفلت كلابك بالشوارع…» (الشيخ إمام)
للوهلة الأولى لا تصدّق عينيك. تفكّر أنه مشهد مركّب، من النوع الذي تحفل به مواقع التواصل الاجتماعي! خدعة بصريّة، مقلب تلفزيوني، أو فيديو قديم، من بلد آخر، جرى التلاعب بشريطه الصوتي.
لكن لا، سرعان ما تتوصّل، بعد تدقيق بسيط، إلى الخلاصة الفظيعة: هذا المشهد جرى بالأمس في وسط بيروت. قرب ساحة النجمة، في وضح النهار… احتفالاً بولادة قانون الانتخابات الجديد ـــ المفترض ـــ الذي طال انتظاره دهراً. رجال عسكر مسعورون، لا يشرّفون البذلة التي يلبسونها، بأسلحتهم الرشاشة، وهراواتهم، وأحذية الرينجر التي تكاد تصبح شعار المرحلة، بشتائمهم المقززة وبذكوريّة مخجلة في دولة تدعي العصرية والحضارة والحداثة، تراهم متجمّعين كأنما حول قاتل خطير أو وحش كاسر: بين أقدامهم شابة مرميّة على الأرض، متقوقعة كالجنين تحاول أن تحمي نفسها. يتبارون على ركلها وضربها بالهراوات الغليظة. ليست محاولة ردع تقليديّة. ليست ضربة واحدة، وهي كانت ستكفي لاختصار مهرجان البشاعة! كانوا يضربون بشكل متواصل، يتلذذون، يطلقون العنان لحقد دفين في أعماقهم، وهم مصمّمون بوضوح على الاساءة إلى انسانيّة هؤلاء الشبان، وجرح كرامتهم، وكسرهم، وإيذائهم… كل ذلك بثقة وفخر ودم بارد!
هؤلاء عسكر لبنان؟ لا شكّ أن في الأمر خطأ ما. هؤلاء أشبه بالثيران الهائجة التي تُفلَت على الناس، خلال أعياد سان فيرمان، في أزقة بعض القرى الإسبانيّة، إحياءً لعادات وطقوس بدائيّة معروفة بالـ «إنثيرّوس» incerros. زمرة من الرجال، يعتدون على شبان عُزّل. يضربون، ويركلون، يتلذذون في ذلك بشبق صادم. تظهر على الشاشة شابة أخرى تحاول الدفاع عن رفيقتها، فتتقاذفها زنود الفرسان الأشاوس. على الفيديو يمكنك أن تسمع وقع الركلات، وتسمع أقدام الرجال الرجال وهي تصطدم بالجسد اليافع الطريّ لشابة جاءت تمارس حقّها الشرعي والطبيعي في الاحتجاج على «لصوص الجمهوريّة». شابة مذعورة، لعلّها خلف الكاميرا، تعبّر عن لوعتها بالفرنسيّة: «إنّهم يضربون النساء… إنّهم يضربون النساء». ونسمع التوسّلات الجارحة: «دخيلك! إنتبهلي على عيني، الله يخليك»! تفلت الشتيمة بوضوح من رجل ببذلة عسكريّة، يمثّل الشرعيّة: «روحي كـ… إختك». نعم؟ لا، ليست رؤيا من نسج خيال محموم. يقول أحدهم: «بلا تصوير»! سبق السيف العزل أفندي، لاقينا على يوتيوب! هؤلاء مؤتمنون على سلامتنا وحريّتنا وقوانيننا؟ ماذا يميّزهم عن قتلة أفلام الكاوبوي التي تسمم حياتنا اليوميّة؟ من هو مسؤولهم؟ من أصدر الأوامر؟ من مسؤوله الأعلى؟ ومن يحميه؟ من قائدهم؟ من وزيرهم؟ من؟… من أصدر الأمر بممارسة هذا العنف الهستيري، البشع، الفج، المؤذي والمهين بحق شعب كامل يتفرّج عاجزاً، مشدوهاً، في هذا اليوم «التاريخي» الذي قيل لنا ـــ وكدنا نصدّق ـــ إنّه يشكّل منعطفاً، «ونقلة نوعيّة»، في الديمقراطيّة اللبنانيّة! ههههه! لو كان هناك من تعمّد أن يبعث برسالة إلى الأمّة، مفادها أنّ القانون تجليطة، وأنّكم ستراوحون مكانكم يا شعب لبنان العظيم، بل ستنزلقون إلى مزيد من التخلف والهمجيّة والاستبداد، لما وفّق إلى هذا الحد!
لا لسنا في التشيلي لحظة انقلاب بينوشيه. لسنا في مصر في 25 يونيو، خلال احدى غزوات «بلطجيّة» مبارك. لسنا في تونس حيث لم يرفع الجيش هراوة واحدة في «أربعتعش جانفي»، بل ترك الضرب لـ «بوليسيّة بن علي». هذا يحدث في لبنان، بعد وصول الرئيس ميشال عون إلى بعبدا. بعد التوصّل إلى تفاهمات سياسية تحمي الاستقرار والوحدة، ومعهما النظام الطائفي على قاعدة «ليس بالإمكان أفضل مما كان». هذا يحدث في اليوم الذي يفترض أنّه يشهد تكريس قانون جديد «سيصحّح التمثيل»، ويفتح آفاق التغيير. متى؟ «بعد عام، بعد عامين وجيل»… لا شك في أن «بوليسيّة» بيروت و«بلطجيّتها» الذين ينهالون بهذه الوحشيّة على الشباب الأعزل، هناك «بن علي» يدافعون عن مصالحه وامتيازاته من غضب الشعب… لعلّ «بن علينا» هو النظام من أساسه القادر على تأمين استمراريّته بصلابة أسطوريّة. النظام متمثّلاً بأشرس باروناته! نفهم أكثر لماذا لم يبادر أحد إلى تخفيض سنّ الاقتراع: هؤلاء الشباب يريدن المشاركة في تقرير مصيرهم؟ سنريهم ما الذي يستحقّونه فعلاً: الهراوات. نفهم الآن بشكل أوضح لماذا لا ترد الكوتا النسائيّة الا في الخطابات الجوفاء: أولئك النسوة مكانهنّ ليس في البرلمان، بل تحت رينجراتنا الظافرة.
سيأتي الآن من يلقي علينا عظة أخلاقيّة جديدة، من النوع المخادع الذي سمعناه في الأيام الماضية عن الانجاز العظيم وآفاق التغيير. في أفضل الحالات، سنسمع أنّ ما حدث خطأ، ولا بد من معاقبة المسؤولين بعد انتهاء التحقيقات! وسيتقاذفون المسؤوليّة. وسيصدرون البيانات العبثيّة التي تقول إن شبابنا المسالم الطوباوي الذي لا يطالب إلا بوطن يتسع لأحلامه ومستقبله، هاجم رجال الأمن وجرّدهم من بنادقهم. يا سلام! أوشك الشعب على احتلال «قصر الشتاء» يعني، كما أيام الثورة البولشفية! ليس للوقاحة حدود في لبنان الجديد. تلك الجرعات الجديدة من الكذب لن تغيّر شيئاً. صور العنف البشعة التي شاهدناها بالأمس، ستبقى عالقة طويلاً في وجداننا. إنّها الوجه الحقيقي للقوانين والوعود المخادعة. لن نصدّق هؤلاء الأباطرة، في جمهورية الموز المنهارة، إلا حين يختفي البلطجيّة من الشارع، ويصبح بوسعنا الاحتجاج تحت نوافذ المجلس النيابي الذي بات «المتحف الوطني»! ولا قيمة لكل القوانين الانتخابيّة إذا لم تخلّصنا من بارونات الفساد والطائفيّة الذين يتخذون من الجمهوريّة رهينة، ويحكموننا بذهنيّة قاطعي الطرق، بل قل بالرينجرات والهراوات. إن جمهوريّتَنا ممنوعة! جمهوريّتُنا الحقيقيّة أيها السادة، هي تلك الشابة التي كانت بالأمس تحت جزمات حرّاسكم!