IMLebanon

الاستقالة نافذة… ماذا أنتم فاعلون؟

 

استقالة الحكومة الحريرية كانت بالتأكيد مفاجأة مدوية. كانت زلزالاً سياسياً وأشبه بانقلاب، وكل الذين فوجئوا هم على حق، لكن الاستقالة حدثت وهي نافذة… فيا أهل الحكم ماذا أنتم فاعلون بعد المفاجأة؟ ومن البداية، كل الروايات حول وضع سعد الحريري وسلامته وصحته استُنفدت، ولم تنجحوا في حرف الأنظار عن المضمون السياسي الذي تضمنه كتاب الاستقالة. كذلك آن الأوان لكي توضع جانباً الترهات الدستورية؛ فعندما يكون النص شديد الوضوح والإحكام، لا تعد هناك حاجة لمن يتبرع بالتفسير، خصوصاً أن المشترك هنا بين كل الطبقة السياسية، يتمثلُ بالتواطؤ على الدستور واستسهال ممارسة الحكم من خارجه.

المادة الدستورية 69 وفي الفقرة الأولى قالت: «تُعتبر الحكومة مستقيلة… أ – إذا استقال رئيسها»، ذلك يعني أن الحكومة مستقيلة منذ أعلن رئيسها استقالته، وقد استخدم الدستور الفعل المجهول (تُعتَبر) بمعنى أنها أصبحت بحكم المستقيلة دون الحاجة لأي إجراء آخر. لا شك أن رئيس الجمهورية ومثله رئيس البرلمان يعرفان الحقيقة، ومعهما كل الطبقة السياسية يعرفون أصل المشكلة في البلد، وكل الوضع السابق للاستقالة ليس خفياً على أحد ولا يُعتبر مفاجأة لأحد. حتى لو افترضنا أن كل النوايا إيجابية عند الذين تحدثوا عن الحكمة بالتعاطي، وعن ضرورة التبصر، وأولوية الهدوء وضبط الوضع، وأن «الضرورة» تُملي انتظار عودة رئيس الحكومة لفهم الدوافع والأسباب الكامنة وراء الاستقالة (…) كل هؤلاء يعرفون بدقة أنه يستحيل عليهم عدم التعاطي مع مضمون خطاب الاستقالة. وأيضاً لم يعد جائزاً التمادي بتجاهل الدستور، وعدم الذهاب لإجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس جديد للحكومة.

لقد طرحت الاستقالة المتلفزة أصل المشكلة في لبنان، عندما وضعت تحت المجهر تغول الدويلة التي تكاد تبتلع الدولة، وقالت إنه يستحيل الاستمرار بجيشين، وبالسلاح خارج الدولة، ويستحيل الاستمرار بحكومة ظِلٍ قرارها نافذ وليس قرار الحكومة المنتخبة، التي تحولت إلى مجرد سلطة شكلية لا تبحث في القضايا الخلافية والجوهرية، فيما تُلزِمُ قرارات وأداء حكومة الظل، السلطة السياسية والبلد. قالت الاستقالة إنه من غير الجائز أن يجتمع مجلس الدفاع الأعلى، ويعلن الحرب على الإرهاب، وأن لبنان جزء من التحالف الدولي ضد الإرهاب، ويتلقى لبنان هبات من الأسلحة الحديثة والذخائر الذكية من الغرب، وعلى أرض الواقع، يتم تفويض «حزب الله» بعقد الصفقات المُشينة مع الإرهابيين، والتصرف بانتصار الجيش، وصرف بطولاته على مذبح شهوات الممانعة ورغباتها بوضع اليد على البلد. وأبرزت الاستقالة أن لبنان يستحيلُ عليه أن يغادر موقعه الطبيعي ومحيطه العربي ليتمَّ إلحاقه بالمظلة الإيرانية، وأساساً أين هي مصلحة الدولة وكل اللبنانيين في إدارة الظهر للحاضنة العربية، والذهاب بلبنان الرسمي في خط متصادم مع الشرعية الدولية.

ولعل الأوضح من كل ذلك في أسباب الاستقالة أن رئيسها – سعد رفيق الحريري – لا يستطيع هو وحكومته تحمل عبء التوقيع على عملية تغيير موقع لبنان وهويته. واليوم الكل يدرك أنه مع تمادي طهران عبر أذرعها العسكرية المختلفة، ومن ضمنها «حزب الله» ودوره مع ميليشيا الحوثي، في المضي باستهداف المملكة العربية السعودية، فإن على أصحاب القرار في لبنان أن يأخذوا في الحسبان كل ما قاله الوزير السعودي ثامر السبهان. لقد بات لبنان نتيجة الصلف والرعونة في قلب العاصفة ويمكن أن تُفرض عليه مروحة من العقوبات.

وما لم تقله الاستقالة يعرفه كل شركاء «التسوية» المهينة؛ فسوريا اليوم عشية البحث الجدي عن تسوية، وبمعزل عن جواب طهران للرئيس الروسي قبل أيام، عن مطلب موسكو تحديد الوجود العسكري للحرس الثوري في أضيق نطاق، وما تردد عن مطلب انسحاب كل الميليشيات الشيعية من سوريا، ومن ضمنها ميليشيا «حزب الله»، فالثابت أن هناك أكثر من عملية إعادة تموضع في مرحلة ما بعد التصفية العسكرية لمواقع «داعش» و«النصرة»، فأين المصلحة الحقيقية للبنان وأين بالتالي موقعه؟ خصوصاً أن الولايات المتحدة، ومعها الحلفاء العرب، أعلنوا عن مواجهة شاملة للنهج الإيراني الذي زعزع الاستقرار في المنطقة، ومع موجة العقوبات الاقتصادية على «حزب الله»، وتهديدات تل أبيب بمغامرة عسكرية جديدة، لم يعد مقبولاً بقاء هذا الغطاء، لحكومة قرارها بيد نصر الله، وكل دورها التغطية على مصادرته للدولة، وما يمكن أن تقرره طهران من مغامرات يكون لبنان وقودها.

قبل عام من الآن قالوا إن «التسوية» هي الضمانة، والنهج الابتعاد عن حرائق المنطقة، فجاءت الاستقالة لتسقط مع الضمانة المزعومة «التسوية» نفسها، وتفضح هذا الإصرار على وضع لبنان تحت سيطرة إيران. ولأنها أوصلت العماد عون لقصر بعبدا والحريري إلى السراي الحكومي، فخروج الثاني هزّ كل الوضع، ما يعني أنه اليوم قبل الغد، وفي مواجهة الوضعين الإقليمي والدولي، على رئيس الجمهورية السعي لتجديد التسوية، أو العمل لتسوية جديدة تنطلق من القضايا التي حملها خطاب الاستقالة؛ تسوية حقيقية ترتكز على الدستور، وعلى قرارات الشرعية الدولية، والبوصلة الحقيقية هي مصالح لبنان واللبنانيين تجنباً لضغوط ومخاطر أكبر.