كلما لوّح الرئيس تمام سلام بالاستقالة، اوحى لمعارضي خياره كما مشجعيه بانه يلوذ بلعبة حافة هاوية تتجمع في تداعياتها المحاذير الامنية مقدار المحاذير الدستورية في ظل شغور مرجعية الرئيس. مع ذلك، لا يبصره الفريقان مغامراً
بعد ايام قليلة في مثل هذا الشهر لسنتين خلتا، فجر 15 آذار 2014، اقرت حكومة الرئيس تمام سلام البيان الوزاري. اخفقت حتى اليوم الـ27 في مهلة الـ30 يوماً المحددة لانجاز البيان المنصوص عليها في الدستور في الاتفاق عليه، الى ان هدد رئيسها في ذلك اليوم، للمرة الاولى، بالاستقالة كي لا تجد حكومته نفسها ساقطة بانقضاء المهلة بعد ثلاثة ايام.
لم تكن حتى ذلك الوقت سوى حبر على ورق. حكومة صدرت مراسيم تأليفها في 15 شباط وراحت تجرجر جلسات البيان الوزاري الـ11 دونما التفاهم عليه بعدما انقسم افرقاؤها حيال ادراج بندي «اعلان بعبدا» ومعادلة «الجيش والشعب والمقاومة» فيه. بعد مشاورات بدأت في الثامنة مساء 14 آذار وانتهت بالتئام مجلس الوزراء في الثانية عشرة إلا عشر دقائق قبيل منتصف الليل، ابصر البيان الوزاري النور فجراً بتدخّل اختلط فيه الخارج بالداخل. بدأ بهاتف مفتوح في واشنطن ماراً بالرياض وطهران كي يستقر في قصر بعبدا. شُطب منه «اعلان بعبدا» واسقطت المعادلة الثلاثية للمرة الاولى منذ حكومة 2008 واكتفي بذكر المقاومة.
ليلتذاك كان لا يزال ثمة رئيس للجمهورية هو ميشال سليمان. مع ذلك منع سلام من استقالة حكومته والبلاد تتحضر بعد شهرين لتنكب شغور رئاسة الجمهورية كي تملأه هي، تحت وطأة انقسام حاد على الاستحقاق والمرشح معاً. ساد الاعتقاد ايضاً ان حكومة سلام «اممية» رغم ان فريقي 8 و14 آذار تقاسما مقاعدها بالتساوي، وأرغم حزب الله وتيار المستقبل على القبول على مضض بمَن يرشحه كل منهما لحصته في المقاعد. مذ ذاك اضحت حكومة سلام واجهة الشرعية الدستورية اللبنانية وقاعدة الاستقرار اللبناني. سرعان ما انتقلت اليها عدوى عهد سليمان المنقضي: اكثر من ثلثه اضاعه في تأليف حكومات وتصريف اعمال وخلافات مجلس الوزراء تحول دون انعقاده. كذلك الحكومة الحالية اهدرت اكثر من ثلث عمرها في عدم عقد جلسات او مقاطعتها او ارفضاضها على ازمات. الا ان بقاءها واجب وحتمي من دون ان يتغير شيء من حولها سوى انهاك رئيسها وتلذذ الوزراء باستخدام سلطة مفرطة في غياب رئيس الجمهورية: الخلاف نفسه على فحوى «اعلان بعبدا»، وهو حياد لبنان عن حروب المنطقة ونزاعات دولها، وعلى دور المقاومة في الداخل والخارج. كأنها في اليوم الاول بعد تأليفها.
ما لم تقله المملكة ان طائراتها في تركيا صارت على تماس عسكري مع حزب الله
حتى اشعار آخر يبدو تلويح سلام بالاستقالة موقفاً شخصياً فحسب، ناجماً عن امتعاضه الى حد القرف من مقاربة مجلس الوزراء ازمة النفايات وعرقلة اي حل يقر لها، من غير ان ينطوي موقفه على ضغوط يتعرض لها من تيار المستقبل او حزب الله بغية فرط عقد الائتلاف، ومن دون ان يُظهر اي من الطرفين استعداداً لمجازفة تتسبب بانهيار الحكومة وادخال البلاد في فراغ عام. لم تحتج استقالة وزير العدل اشرف ريفي الى اكثر من بضع ساعات كي تمسي من الماضي، كأن شيئاً لم يصب تياره السياسي، ولا كان يعوز الفريق الآخر ان يشمت به.
ورغم وزر المواجهة بين الطرفين الشيعي والسنّي، الناشىء عن موقف حزب الله من السعودية واستمراره في مهاجمتها، تبادلا في الاسابيع الاخيرة رسائل تطمين عززت اصرارهما على بقاء حكومة سلام واكدت ربط النزاع بينهما، وعكست كذلك رغبة في المحافظة على الاستقرار: اكد حزب الله تشبثه بالامن والسلم الوطني وطمأن الى بقائه تحت سقف اتفاق الطائف، فرد تيار المستقبل بتمسكه بدوره بالحوار مع الحزب ورفض نعته منظمة ارهابية اسوة بدول مجلس التعاون الخليجي.
على ان الفريقين راوحا في الموقف من النزاعات الاقليمية وتحديدا حيال الرياض: وقف تيار المستقبل الى جانب المملكة في مطالبها الثلاثة من حزب الله: خروجه من سوريا، وقف تدخله في شؤون دول الخليج وصولاً الى اليمن، وقف حملاته عليها. بالتأكيد لا تكتفي الرياض بموقف تضامن كالذي اصدره مجلس الوزراء، ولم تتردد في التهكم على عريضة تنادي بعروبة لبنان لا جدوى منها ما دام الدستور يجزم بها. في المقابل اصر الحزب دوره حيث يريد وغالى في التعرض للعائلة المالكة.
بيد ان ذلك ما عناه ايضاً منذ اليوم الاول، خلاف افرقاء حكومة سلام على البيان الوزاري من خلال بندي «اعلان بعبدا» والمقاومة، ولم يكن الحزب قد افصح حينذاك، عام 2014، انه بات يقاتل في كل مكان في سوريا، كذلك في العراق واليمن والبحرين. لم يقل ما قاله الامين العام السيد حسن نصرالله الاسبوع الماضي ان يده امتدت قبلا الى البوسنة حتى، وهو سيكون في كل مكان يقرر ان يكون.
على ان ما لم تقله المملكة في النزاع المفتوح مع حزب الله، ان مرابضة طائراتها المقاتلة في قاعدة تركية على الحدود مع سوريا تجعلها على تماس عسكري مباشر معه في معركة مواجهته المعارضة المسلحة التي تدعمها الرياض.
اذ ذاك يصبح الكلام عن استقالة الحكومة قليل الاهمية.