«عنزة ولو طارت». كم ينطبق هذا المثل اللبناني الشعبي على تصرّف «حزب الله» ومعظم حلفائه لناحية إصرارهم السياسي ـ الإعلامي على تأكيد التنسيق بين الجيش اللبناني من جهة و«حزب الله» والجيش السوري من جهة ثانية، في معركة «فجر الجرود» ضدّ فلول تنظيم «داعش» الإرهابي في جرود رأس بعلبك والفاكهة والقاع، على الرغم من نفي الجيش اللبناني جهاراً نهاراً في المؤتمرَين الصحافيَّين اللذين عقدتهما مديرية التوجيه، السبت والأحد الماضيين، لتوضيح ظروف المعركة ومجرياتها منذ انطلاقها فجر السبت الماضي.
طبعاً، ليس مستغرباً أن يتصرف هؤلاء على هذا النحو طالما هم ينظرون إلى الوضع اللبناني برمّته، بما في ذلك معركة الجيش في الجرود، كجزء من معركة أوسع هم منخرطون فيها «إلى الآخر» في كل بؤر الحرب والتوتر في المنطقة، من اليمن وصولاً إلى سوريا. وبالتالي هم دأبوا حتى قبل بدء «فجر الجرود» على الترويج لتنسيق الجيش اللبناني مع «حزب الله» والجيش السوري لسببين؛ أولاً للقول إنّهم شركاء للجيش اللبناني في هذه المعركة، وبالتالي شركاء له في النصر الذي سيحققه. أي أنهم بطريقة غير مباشرة يقولون إنّ الجيش لا يمكنه من دونهم تحقيق النصر في هذه المعركة. وثانياً للترويج أكثر فأكثر لهدفهم المزمن، ألا وهو تأكيد التنسيق بين الجيش اللبناني والجيش السوري و«حزب الله» كطرف مقاتل في سوريا، لما لذلك من فائدة سياسية للنظام في دمشق، ولمحور الممانعة عموماً، للقول للعالم إنهم الأوائل في الميدان ضدّ «داعش»، لا بل أكثر من ذلك هم يقدمون العون للجيش اللبناني في قتاله ضدّ عناصر التنظيم الذين، وللمناسبة، ما كانوا حيث هم في الجرود النائية لولا دفع الجيش السوري و»حزب الله» لهم باتجاه الجانب اللبناني من الحدود.
مستشار رئيس حزب «القوات اللبنانية» العميد المتقاعد وهبة قاطيشا يسأل من يتحدثون عن تنسيق بين الجيش اللبناني من جهة و«حزب الله» وجيش النظام السوري من جهة ثانية «عن مكان وجود غرفة العمليات المشتركة لهذه المعركة بين هذه الاطراف الثلاثة؟ هل هي في عرسال أم في القاع أو في وزارة الدفاع؟»، ليستطرد بالقول: «الأمور العسكرية لا تحتمل المزاح. فالتنسيق في المعارك يقتضي غرفة عمليات مشتركة. كما يقتضي أن تستخدم الجهات التي تنسّق في ما بينها أجهزة اتصال مشتركة، فضلاً عن إمتلاكها سلاحاً مشتركاً، وهذا أمر غير متوفر بين هذه الأطراف، إذ يمتلك الجيش اللبناني سلاحاً غربياً، بينما سلاح الجيش السوري شرقي».
بالانتقال إلى السياسة، يرى قاطيشا أنّ «الكلام عن تنسيق من هذا النوع ما هو إلّا محاولة من قبل المروجين له لتصوير الجيش اللبناني كجزء من محور في المنطقة، أو كأنه حشد شعبي لبناني».. هذا الكلام يدفع إلى العودة إلى النقطة الأساسية في السجال السياسي اللبناني بين من يدعو إلى تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، كما جاء في خطاب القَسَم والبيان الوزاري، وبين من يريد للبنان، دولة وشعباً وجيشاً، أن ينخرط في صراعات المنطقة، وأقربها إليه الصراع السوري، الذي انخرط فيه «حزب الله» باكراً، ويريد للدولة اللبنانية – على ما يدعو صراحة في تصريحات مسؤوليه – بمؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية أن تحذو حذوه، فتخرج بالتالي على مبدأ النأي بالنفس عن صراعات المنطقة الذي التزمته. بمعنى آخر، فإنّ الجيش بتأكيده مرتين على التوالي عدم تنسيقه مع الجيش السوري و«حزب الله» في معركة «فجر الجرود»، يؤكد – بالدم هذه المرة – إلتزام الدولة اللبنانية «النأي بالنفس».. وهذا يجعل من المعركة معركة لبنانية بامتياز، أي أنّها لتحرير أراضٍ لبنانية محتلة من قبل تنظيم إرهابي، وليست معركة من ضمن استراتيجية قتالية وسياسية لهذا المحور الإقليمي أو ذاك، لا في توقيتها ولا في أهدافها.
وبذلك يؤكد الجيش اللبناني في هذه المعركة أنّه الضامن الوحيد لحياد لبنان عن صراعات الإقليم، بينما لا يؤدّي انخراط جهات لبنانية في الحرب السورية سوى إلى زعزعة هذا الحياد، وبالتالي دفع السجال اللبناني حول هذه المسألة إلى أقصاه، مع ما يستتبع ذلك من انقسامات سياسية وأهلية. وهو ما يشير إليه عضو كتلة «المستقبل» النائب سمير الجسر الذي يرى أنّ «إصرار حزب الله وجهات حليفة له على تأكيد تنسيق الجيش اللبناني مع الجيش السوري ليس إلا لإحراج الجيش اللبناني، وخلق أزمة سياسية في لبنان بالنظر إلى الخلاف الحاصل حول هذه المسألة»، ومشدداً على أنّ «الجيش لديه مصداقية ووضوح، وهو يخدم لبنان بينما الآخرون يخدمون مشاريع تتجاوز المصلحة اللبنانية».
أمرٌ آخر لا يمكن إغفاله من قراءة معطيات معركة جرود القاع ورأس بعلبك والفاكهة، وهو متانة الأرضية السياسية التي انطلق منها الجيش لخوض معركته هناك. إذ من الصعب لا بل من المستحيل فصل السياق العسكري للمعركة بتوقيتها وجاهزية الجيش لها عن السياق السياسي المؤسساتي الذي حضّر الأرضية السياسية لها، لا سيما من خلال انعقاد المجلس الأعلى للدفاع الذي أطلق يد الجيش في معركة الجرود. ولعلّ هذا الاجتماع فضلاً عن تصريحات رئيسَي الجمهورية العماد ميشال عون والحكومة سعد الحريري، كلهّا عزّزت الالتفاف الشعبي حول الجيش لأنّها خلقت مظلة أمان سياسية حوله تحميه من الضخ الإعلامي والسياسي المشبوه الذي حاول وما يزال زجّ الجيش في الصراع الإقليمي وامتداداته المحلية. وما آخر تلك المحاولات سوى محاولة تأكيد تنسيق الجيش اللبناني مع الجيش السوري و«حزب الله» بالرغم من نفي الجيش اللبناني هذا الأمر! لكنّ هذه المحاولات كلّها مصيرها الفشل على ما أظهرت مجريات معركة الجرود، أولاً لناحية جاهزية الجيش وقدرته على القتال وتحقيق أهدافه من دون مؤازرة من أحد، وأيضاً لناحية الاحتضان الشعبي الواسع له، والذي يؤكد، بما لا يحتمل الشك، تمسّك الغالبية العظمى من الشعب بالقوى الشرعية اللبنانية كحامية وحيدة له، لا سيّما عندما تكون معادلة «شعب وجيش ودولة» بارزة بقوّة في مجريات المعركة، بعيداً من كل المعادلات الأخرى ولا سيما «الجيش والشعب والمقاومة» التي «يتغنّى» بها البعض وكانت وستبقى عنواناً لانقسام لبناني مديد.