أحاطت أجواء من الغموض والتناقض نتائج لقاءات الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، على خلفية تباين الإنطباعات والإستنتاجات بين الفرقاء المعنيين، حيث خلُص كل فريق إلى إعتبار أن الديبلوماسي المخضرم قد « إقتنع»، أو على الأقل «تفهم» موقفه!
ولكن تقاطع المعلومات المسرّبة من المرجعيات المتناقضة سياسياً، يرسم مشهداً رمادياً للخلاصة التي عاد بها لودريان إلى باريس، حيث تختلط فيها الوقائع مع التمنيات، سيما وأن الحكم النهائي على نتائج هذه المهمة الصعبة، يعود إلى الدول الخمس المعنية بالوضع اللبناني، وهي إلى جانب فرنسا :الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية و مصر وقطر.
غير أن تعقيدات الخلافات اللبنانية، وبعض التباينات الحاصلة في مواقف لقاء الدول الخماسي، لم تُثنِ الوسيط الفرنسي عن محاولة إنجاز الإستحقاق الرئاسي خلال تموز المقبل، على إعتبار أن الأوضاع اللبنانية، المتردية في مختلف المجالات، لا تتحمل المزيد من التأخير وإضاعة الوقت، سيما وأن إستحقاقات مهمة على صعيد البنية الأساسية للدولة أصبحت على الأبواب، وفي مقدمتها إنتهاء ولاية حاكم البنك المركزي نهاية تموز، وإحالة مدعي عام التمييز إلى التقاعد في آب ، وبلوغ قائد الجيش عتبة التقاعد في مطلع الشهر الأول من العام الجديد.
ويبدو أن لودريان بصدد إعداد «خريطة طريق سريعة» للتوصل إلى حد أدنى من التوافق بين اللبنانيين على الرئيس العتيد، سواء عبر جولته المقبلة على القيادات، أو من خلال دعوة الجميع إلى طاولة حوار على مستوى الصف الأول، حتى تكون مناقشاتها جدّية وحاسمة بالسرعة اللازمة، للوصول إلى إنتخاب رئيس، وإنهاء هذا التخبط العشوائي الذي يُهدد الدولة والكيان.
وأبلغ الموفد الفرنسي من يعنيهم الأمر، أنه طالما لا قدرة لأي فريق على إيصال مرشحه للرئاسة في عملية ديموقراطية سليمة، فإن الذهاب إلى التسوية يبقى هو الطريق الأقصر للخروج من المأزق، والأنسب لكل الأطراف، لأن التسوية المنشودة ستراعي هواجس كل الأفرقاء الحزبيين والسياسيين، مسلمين ومسيحيين.
ولكن هل سيتمكن المبعوث الشخصي للرئيس الفرنسي من النجاح في مهمته؟
التجارب الفرنسية مع المنظومة السياسية الراهنة ليست مشجعة، قياساً على ما حصل مع الرئيس ماكرون نفسه، في أعقاب كارثة إنفجار المرفأ في آب ٢٠٢٠، وإستقالة حكومة حسان دياب، حيث لم تُفلح زيارتيه إلى بيروت في إخماد تداعيات زلزال مرفأ بيروت، ولم تُثمر نصائحه، ولا تحذيراته، حتى لا نقول تهديداته، في تنفيذ خريطة الطريق التي وضعها، والتي تقضي بتشكيل حكومة خلال شهر واحد فقط، وإطلاق ورشة الإصلاح وإستعادة الثقة على السريع. وكان أن ضرب السياسيون اللبنانيون بوعودهم عرض الحائط، وأجهضوا المسعى الرئاسي الفرنسي فور مغادرة ماكرون بيروت ، وحتى قبل أن يصل إلى باريس!
بموازاة الجهود الفرنسية الراهنة ولقاء باريس الخماسي، ثمة من يترقب تطور المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان، بصمت وبعيداً عن الأضواء الإعلامية، والتي حققت تقدماً ظهرت طلائعه في الإفراج عن بضعة مليارات من الدولارات من الأموال الإيرانية المحتجزة بأمر من الإدارة الأميركية، فضلًا عن تحسن أحوال «سجناء» أميركيين، في إيران تمهيداً لإطلاق سراحهم في الصفقة المتوقعة حول الملف النووي الإيراني، والتي من شأنها أن تنعكس إيجاباً على الأزمة اللبنانية، على نحو ما حصل بعد إبرام الإتفاق النووي بين إدارة أوباما وإيران عام ٢٠١٤، وانعكس إنفراجاً على العُقَد التي كان يُمسك بها حلفاء طهران في لبنان، والتي حالت دون تشكيل الحكومة طوال أحد عشر شهراً ونيّف، في أواخر عهد الرئيس ميشال سليمان.
وإذا أضفنا التقارب السعودي ــ الإيراني المستجد بعد إتفاق بكين، والذي ظهرت إحدى إشاراته الملفتة على الأرض اللبنانية، من خلال الحفاوة التي أحاطت أول لقاء بين سفيري المملكة وإيران في لبنان، خلال العشاء الديبلوماسي الجامع الذي أقامه السفير السعودي وليد بخاري، إلى ما يمكن أن تُسفر عنه مفاوضات عُمان من تفاهمات بين الأميركيين والإيرانيين، يمكن الحديث عندها عن حل جذري وجدّي ومستدام للأزمة المستعصية حالياً في لبنان، من خلال تفاهمات ثلاثية الجوانب بين الرياض وواشنطن وطهران، يتم تعزيزها وإخراجها لاحقاً عبر اللقاء الخماسي في باريس، إذا كان ثمة ضرورة لذلك.
وثمة من يذهب أبعد من ذلك، كاشفاً أن سوريا ليست بعيدة عن أجواء الجهود الجارية في المسار اللبناني، وإن كانت المعطيات الراهنة تختلف جذرياً عما كانت عليه، في فترة الوجود السوري في لبنان.
ولكن ماذا لو طالت أشهر التفاوض بين الأميركيين والإيرانيين؟