جولة الحرب التي شنّها الكيان الصهيوني على غزة بعد عملية «طوفان الأقصى» هي الأطول بين الحروب التي دارت بين هذا الكيان وحركة النضال الوطني الفلسطيني وسائر العرب على مستوى دولهم وحركاتهم السياسية. فهذه الحرب تميّزت في سياقاتها الميدانية عن سابقاتها بعاملين أساسيين:
الأول، مباغتة المقاومة للكيان الصهيوني بتنفيذ عملية اقتحام لخطوطه وتحصيناته التي أقامها على طول الحدود مع غزة كما في حسن اختيار التوقيت في يوم يعتبره الكيان الصهيوني يوماً تتعطّل فيه كل مظاهر الحياة العامة وهو ما يسمّى بيوم الغفران أو «يوم كيبور» باللغة العبرية، وهو يوم صيام عند اليهود، يلتزمون فيه منازلهم أو يتوجهون الى دور العبادة، وتتوقف القطارات والمواصلات العامة وتمتنع السيارات عن الحركة، وتكاد تخلو الشوارع من المركبات والمارة إلّا من سيارات الشرطة.
إنها المرة الأولى، التي تتمكن فيها قوى المقاومة كقوة اقتحام منسقة الخطوط والعمليات، من اختراق دفاعات العدو والسيطرة على قواعد ومعسكرات وتُمْسك بالأرض لمدة من الزمن وتعود بصيد ثمين من الأسرى، وهذا لم يحصل سابقاً رغم تمكّن مجموعات فدائية من العبور الى داخل فلسطين المحتلة وتنفيذ عمليات اقتحامية، كما في اقتحام مستوطنات في الجليل الأعلى وحيفا وغيرها من المدن الفلسطينية.
الثاني، ان رد الفعل الصهيوني كان هستيرياً، لانه لم يستطع أن يستوعب الذي حصل في صبيحة يوم السابع من اكتوبر، وهو الذي كانَ يعتبر نفسه في موقع المبادر دائماً في شن الحروب، شاملة كانت أو محدودة، فإذ به في لحظة غفلة يتعرض لهجوم دارت رحى عملياته العسكرية ليس على الأرض التي احتلها بعد قيام دولته عام ١٩٤٨ ويسعى لقضمها وفرض الصهينة على معالم الحياة فيها، بل دارت على الأرض التي يعتبرها أرض دولة «إسرائيل»، التي أعطيت له بموجب قرار التقسيم الصادر عن الامم المتحدة سنة ١٩٤٧، وهذه الأرض بنظره هي خارج المنازعة، لان ما هو متنازع عليه هو تلك التي احتلت في حرب الأيام الستة ومنها غزة والضفة الغربية فضلاً عن أراضٍ عربية تم احتلالها كما هو حال الجولان في سوريا وبعض مناطق العرقوب في لبنان.
ان العامل الأول، الذي تمثل بتمكن المقاومة الفلسطينية من اقتحام خطوط العدو العسكرية وتحصيناته يعتبر بدلالاته أكثر أهمية من تلك التي حصلت في حرب ٦ اكتوبر سنة ١٩٧٣، يوم تمكن الجيش المصري بشكل خاص من عبور الحاجز المائي الذي تمثله قناة السويس. ففي ذاك اليوم كان عبور الجيش المصرى لقناة السويس، وما حصل في الأيام الأولى على جبهة الجولان قبل أن يستعيد الجيش الصهيوني المبادرة الى حين وصول الجيش العراق الذي أوقف تقدم العدو نحو دمشق، هو هجوم لجيوش عربية لتحرير أرضٍ وطنية مصرية وسورية محتلة من قبل الكيان الصهيوني، وهذا له مبرراته السياسية والقانونية وان القرارات الدولية وخاصة القرار ٢٤٢ نصت على انسحاب «إسرائيل» من الأراضي التي احتلتها ولا يغيّر من جوهر الأمر، تباين التفسيرات حول مفردة الانسحاب من «الأراضي» المحتلة أو الانسحاب من «أراضٍ» محتلة. أما عبور ٧ اكتوبر الى غلاف غزة، فهو بنظر المقاومة الفلسطينية وكل القوى العربية التي تنظر الى «إسرائيل» باعتبارها دولة احتلال لكل أرض فلسطين، هو عبور الى داخل أرض وطنية فلسطينية محتلة وبالتالي هو فعل وطني تحريري بامتياز أياً كانت نظرة العدو أو القوى الداعمة له من البُعد الذي تنطوي عليه هذه العملية.
ان المواجهة الحالية تميّزت عن سابقاتها، رغم ان الطرفين اللذان يشكلان رأس حربة في المواجهة لم يطرأ أي تغيير على طبيعتهما. ففي المرات السابقة لم يحصل ان تمكّنت المقاومة من اختراق خطوط العدو وتحصيناته وان كانت ترمي بالصواريخ ما يعتبره العدو غلافاً لغزة وعمقاً جغرافياً «كتل أبيب» مثلاً، والعدو عندما كان ينفذ عملياته العسكرية كان يركز بشكل أساسي على مراكز المقاومة وقيادييها والمرافق والمؤسسات ذات الصلة بالانشطة العسكرية مع استهداف محدود للمرافق الحيوية والخدمية. أما في المواجهة الحالية، فالعدو اعتمد في ردّه سياسة الأرض المحروقة، بحيث لم تعد المقاومة وتشكليها الأساسي في غزة الذي تمثله حركة حماس عسكرياً وسياسياً واعلامياً هي الهدف للرد وحسب، بل الهدف هو قطاع غزة وبما يمثل من حاضنة شعبية للفعل المقاوم بكل تعبيراته. وعندما يكون قطاع غزة بكليته هو المستهدف من الرد الصهيوني، فإن بنك الأهداف الصهيوني لا يعود يقتصر على البنية العسكرية للمقاومة فقط، وإنما يمتد ليشمل الهياكل السياسية والمؤسسات الإعلامية والمرافق الخدماتية من صحية وتربوية واجتماعية وكل ما له صلة بالحياة المعيشية، ولسبب بديهي وبسيط، هو إدراك العدو ان عملية «طوفان الأقصى» وما أفرزته من نتائج أولية إنما كانت عملية نوعية غير مسبوقة في إطار المواجهات التي كانت تحصل وهي أحدثت خللاً في بنيان الكيان الصهيوني بكل عناوين الحياة فيه. وهذا الخلل أراد العدو ترميم صورته التي اهتزت باللجوء الى تدمير بنيان غزة وقطاعها بكل مقومات الحياة فيهما.
إن المتابعين لسياقات الحرب الدائرة منذ أسابيع يعترفون من كان منهم مؤيداً للعدو أو من يعتبر نفسه متفهّما أو من هو في منزلة وسطية أو في منزلة بين المنزلتين، ان الرد الإسرائيلي على عملية عبور المقاومة الى غلاف غزة ليس متساوقاً، بمعنى انه تجاوز ما يمكن اعتباره ردّاً متناسقاً مع ما أصابه من خسائر مادية ومعنوية، وخاصة ان آلة الحرب الصهيونية صبّت جحيمها على المرافق المدنية من مخيمات وأحياء سكنية ومستشفيات ومدارس ودور عبادة ومراكز إيواء إنساني وهو ما أدّى الى ارتفاع منسوب الموقف المعارض «لإسرائيل»، والذي كانت التظاهرات العارمة التي غصّت بها عواصم العالم وخاصة الغربي منه خير معبّرٍ عن حجم الاعتراض الشعبي على ما ترتكبه «إسرائيل» من جرائم حرب موصوفة وجرائم ضد الإنسانية والتي ارتقت حد حرب الإبادة لكتلة شعبية برمّتها.
لقد استوعبت هذه الجولة من الصراع مع الكيان الصهيوني كل مفردات الحروب عبر التاريخ، ما احترمت فيها قوانين الحرب أو ما تم انتهاكه منها والغلبة كانت دائماً للثانية. لكن ما ميّز هذه الجولة عن سابقاتها في عنفها وطابعها التدميري وخاصة من جانب العدو، هو ان الحرب اندلعت في ظل وجود استعصاءين، استعصاء صهيوني ينطلق من الرفض لإعطاء أي شيء مما يقع تحت سيطرته واحتلاله بعدما حبس نفسه في زنزانة «رؤيته التوراتية» لدولته وقافلاً الأبواب على أية محاولات أو مشروع للتسوية، واستعصاء فلسطيني ينطلق من رفضه الاعتراف بالكيان الصهيوني ولو كان أمراً واقعاً قائماً بحكم موازين القوى الدولية التي انتجت هذا الكيان، وان ما جذّر من هذا الاستعصاء الفلسطيني الاصرار الصهيوني على تصفير الحقوق الوطنية الفلسطينية وخاصة حق الهوية وحق تقرير المصير.
وعندما يعتبر رعاة المشروع الصهيوني، ان فلسطين التاريخية هي أرض كيانهم ولا تقبل القسمة على اثنين، يتضح ان الحركة الصهيونية التي أقامت كيانها عام ١٩٤٨، تستبطن في ذاتها موقفاً أصلياً، هو السيطرة على كل فلسطين، وان قبولها بالهدن لم يكن سوى تكتيكاً يجري توظيفه في خدمة الهدف الاستراتيجي القائم على القضم والهضم للأرض وفرض التهويد عليها.
من هنا فإن المواجهة الحالية اتخذت هذا الطابع الحادّ لان الحرب يتحكم فيها، رفضان:
رفض صهيوني للاعتراف بوجود شعب اسمه شعب فلسطين وهذا استتبع رفضاً لأية حقوق وطنية فلسطينية. ويقابله رفض فلسطيني مدعوم برفض شعبي عربي للاعتراف بشرعية الاغتصاب ويرى في «إسرائيل» بإنها سلطة احتلال على كامل أرض فلسطين.
في ظل هذين الرفضين أحدثت المواجهة العسكرية الحالية التي اشتعلت بمبادرة الفعل الوطني الفلسطيني المقاوم ورد الفعل الصهيوني، اختراقاً على الجبهتين.
فعلى جبهة الجانب الصهيوني، ظهر الاختراق في بُعْدين:
الأول، عسكري، انطوى على تمكّن المقاومة الفلسطينية من العبور الى داخل أرض فلسطينية محتلة هي بنظر العدو «أرضاً وطنية» لكيانه، وهذا هو الإنجاز الأهم.
والثاني، سياسي، تمثّل بالاختراق الذي تحقق على مستوى الرأي العام العالمي والتحوّل النوعي نحو القضية الفلسطينية التي أعيدت الى مدارها الإنساني مع استحضار الحل على أساس الدولتين.
لقد أحدث الاختراق الأول اهتزازاً في البنية السياسية والأمنية والاقتصادية لدولة العدو في وقت كان يعتبر نفسه محصّناً أمام أي اختراق عسكري لداخل كيانه، وأحدث الاختراق الثاني، تحوّلاً قوياً في الرأي العام العالمي بحيث تلازمت الإدانة لجرائم الحرب التي ارتكبها الكيان الصهيوني مع دعوة الحرية لفلسطين وبهذا تحوّلت القضية الفلسطينية الى قضية رأي عام دولي، وأهمية ذلك انه شكل عاملاً ضاغطاً على حكومات الدول الداعمة «لإسرائيل».
أما على جبهة الجانب الفلسطيني، فإن الاختراق للرفض الفلسطيني الذي ينطوي عليه موقف الفصيل الذي يدير ويقود المواجهة العسكرية والسياسية، فقد تمثل بإعلانه ولأول مرة مقاربته للحل على أساس الدولتين.
ان هذين الاختراقين، هما أبرز ما أفرزته حتى الآن سياقات الحرب التي باتت على مشارف الشهرين من انطلاقتها.
فهل تمهّد هذه الاختراقات لجدار المواقف الموصدة الى إطلاق عملية سياسية تنطلق من المعطيات التي أفرزتها الحرب بمعطياتها المختلفة عن سابقاتها؟
اننا نعتقد انها ستطلق عملية سياسية، لكن الوصول بها الى نتائج ملموسة رهن بحصول تحوّلات في ثلاث دوائر:
التحوّل الأول، ومسرحه في دائرة الكيان الصهيوني، حيث ان الحرب لا بد أن تتفاعل نتائجها في الداخل الصهيوني من خلال التأثير الذي أحدثه العبور الفلسطيني المقاوم الى عمق الأرض المحتلة منذ عام ١٩٤٨ وهو لم يكن محسوباً ولا محتسباً في حسابات الكيان الصهيوني، وهذه التفاعلات يرجح بأنها لن تكون نتائجها في مصلحة الاتجاه الداعي لإقامة دولة «إسرائيل» التوراتية وهو الذي يدفع باتجاه انشطار عامودي في بنية المجتمع الصهيوني فضلاً عن كونه سيتحوّل الى عبء ثقيل على داعمي «إسرائيل» من القوى الدولية الداعمة وبتأثير من ضغط الرأي العام الذي بدأ ينظر للكيان الصهيوني بانه كيان فصل عنصري ويعمل خارج قواعد الانتظام الدولي.
التحوّل الثاني، هو التحول في دائرة الرأي العام الدولي من القضية الفلسطينية، والذي يفترض أن يتم تثميره في انتزاع مواقف سياسية دولية أكثر توازناً بالنسبة للصراع العربي – الصهيوني. وعليه فان النتائج التي ستفرزها الحرب على غزة، ستفرض تقدم الرؤية لدولة «إسرائيل» بأنها دولة وظيفة وفق ما تقتضيه مصلحة النظام الاستعماري وخاصة الموقع الأميركي منه، على رؤية دولة «إسرائيل»، كدولة توراتية وفق ما هو مستقر في عقل المؤسسة الدينية اليهودية والتي حققت تقدّماً في الامساك بمفاصل السلطة مؤخراً. فدولة الوظيفة لها حدودها سنداً لحيثيات اقامة هذه الدولة كما تحددت في مقررات مؤتمر كامبل بانرمان ١٩٠٥-١٩٠٧، فيما الدولة التوراتية هي دولة «إسرائيل» الكبرى التي تتجاوز حدودها حدود فلسطين التاريخية أو بعضها الى حدود الفرات والنيل.
التحوّل الثالث، فهو في دائرة الفعل الفلسطيني حيث ان النتائج التي ستفرزها المواجهة الحالية، يجب ان تدفع باتجاه إعادة تركيب الجسم السياسي الوطني الفلسطيني وإعادة هيكلته على قاعدة انضواء كافة فصائل المقاومة في إطار الشرعية الوطنية الفلسطينية التي تمثلها منظمة التحرير بعد تطوير مؤسساتها وميثاقها السياسي الذي يحاكي المتغيّرات الحاصلة. وحتى لا يحصل الخلط بين منظمة التحرير والسلطة التي انبثقت بعد اتفاق أوسلو، فإن الأخيرة هي سلطة إدارة، فيما منظمة التحرير هي مرجعية تمثيل نضالي وهذه المرجعية دفعت جماهير فلسطين أثماناً باهظة لتكريس شرعية تمثيلها النضالي.
ان توحيد المرجعية الوطنية الفلسطينية، هو الركيزة الأهم في البنيان الوطني الفلسطيني، فهي من ناحية أولى تسقط محاولات المناورة للهروب من الاعتراف بالحقوق الوطنية بحجة عدم وجود مرجعية وطنية واحدة تتم محاكاتها، ومن ناحية ثانية، فانها تقدم نفسها كمركز وطني جاذب لكل الفعل النضالي على الساحة الفلسطينية بكل تعبيراته العسكرية والسياسية والشعبية، وفيه تعزيز للصمود الجماهير وتقوية للموقع السياسي في المحاكاة السياسية مع الآخرين أو في المحاكاة العسكرية لسياقات المواجهة مع الاحتلال.
ان هذه التحولات الثلاث، ستفضي بالضرورة الى بلورة معالم حل على أساس الدولتين، «دولة الوظيفة» التي تحاكي الرؤية الاستراتيجية للذين لعبوا دور القابلة السياسية لولادة دولة «إسرائيل»، واستمروا على موقفهم في توفير الحماية لها، «ودولة الحاجز» الفلسطينية التي تحصر «دولة الوظيفة» الإسرائيلية في حدود بعض من أرض فلسطين الى أن تسقط مبررات دورها.
ان العملية السياسية التي ستنطلق بعد وقف الحرب وإعادة تقييم النتائج، ستنطلق حكماً من نتائج التحولات الثلاث الآنفة الذكر، وهي بطبيعة الحال نتائج تتحكم بها موازين القوى، فإذا ما تغيّرت موازين القوى فان كل الحلول والاتفاقيات التي استندت إليها في مخرجاتها ستتغيّر.
ولهذا فإن النظر الى «إسرائيل»، بانها «دولة وظيفة» تستمد شرعيتها الدولية من القرار الدولي الذي أقامها وليس من شرعية التواصل التاريخي، يجعل كيانها في وضعية الكيان غير المستقر الذي تتحكم بوجوده ودوره التوازنات الدولية وهي التي لا تتسم بالثبات التاريخي. وعليه فانها كيان آيل الى الزوال عندما تتهاوى مرتكزات النظام الامبريالي، وعندئذٍ ستتقدم دولة الحاجز الوطني الفلسطيني لان تأخذ بُعدها الوطني الشامل على كل أرض فلسطين وتعود لسابق عهدها كموقع تواصل جغرافي وشعبي بين مشرق الوطن العربي ومغربه وستكون أقرب الى التحقق مع حصول متغيّرات ثورية في الواقع العربي ضد ما هو قائم من واقع تجزئة وارتهان للخارج الدولي والاقليمي.
أخيراً، حسناً فعلت مصر، بان وقفت بحزم ضد إبعاد فلسطينيي غزة نحو أرضها، ومع ان التضحيات هي كبيرة وخاصة في بعدها الانساني ، إلّا ان هذه التضحيات هي التي حرّكت الحس الإنساني في الرأي العام العالمي. وهي التي أسقطت استحضار مشهدية النكبة الأولى. ولو نجح المخطط الصهيوني في دفع سكان غزة الى سيناء لكانت الخطوة الثانية من نصيب سكان الضفة الغربية باتجاه الاردن ولكانت تقدمت رؤية الدولة التوراتية على رؤية دولة الوظيفة.
إن وحدة قوى المقاومة وتموضعها في هيكل سياسي واحد هو على قدر كبير من الأهمية، كما صمود المقاومة وتصدّيها العسكري وصمود الشعب وتشبثه بالأرض بالتلازم مع تثوير الواقع الجماهيري العربي كحضن دافئ لثورة فلسطين وخاصة دوره في مقاومة نهج التطبيع لإقفال منافذ العبور الصهيوني الى العمق القومي.