Site icon IMLebanon

القضاة المعتكفون… الهاوية لم تعد بعيدة

 

كفرَ القضاة بالسياسيين وبمجلس القضاء الأعلى وبالإعلام وبكل ما يمتّ بصلة الى عملهم. ما عادت القصةُ محصورةً بنزاعٍ خفيّ بين نادي القضاة ومجلس القضاء الأعلى، إذ إنّه وللمرّة الأولى في تاريخ الجمهورية يتمرد قضاة لبنان على قرارَين لمجلسهم بعدم الاعتكاف فيقرّرون التوقّف عن العمل من تلقائهم، فمَن هو في نادي القضاة ومَن هو داعم له وحتى مَن هو مناوئ. ليتساءلَ المراقبُ عمّا يمكن أن يوحّد القضاة في وجه مجلس القضاء الأعلى والسلطة السياسية في آن.

 

وفق مصادر قضائية متابعة أن من خلال رصدٍ بسيط لظروف عمل القضاة، يمكن المرء إستشفاف كثير من التفاصيل التي تُلقي الضوء على سبب «الثورة» الراهنة.

 

تراكم الإهمال المزمن للعدلية وفّر الأرضية الخصبة لانتفاضة جامعة تتعاظم يوماً بعد يوم، فالتشكيلاتُ القضائية غيرُ العادلة، وغيابُ المكننة، وسوءُ حال قصور العدل، والحملاتُ الإعلامية اليوميّة، كلّ ذلك عمّق شعورَ الكبت والظلم لدى القضاة. ولكنّ ما جعل الوضع متفجّراً خلال السنوات الثلاث الأخيرة هو تكرار محاولات إصدار تشريعات تتعلّق بالقضاة دون الوقوف عند رأي مجلس القضاء الأعلى وهو الامر الذي يفرضه القانون وعمّق الشعور بتهميش العدلية واستتباعها.

 

وما زاد في الطين بلّة هو أنّ هذه التشريعات تهدف الى جعل صندوق التعاضد رهينة إرادة وزارة المال الامر الذي ينظر اليه القضاة بكثير من الريبة والخوف على رغم من تطمينات رئيس مجلس القضاء الاعلى جان فهد، الذي اجتمع أمس مع هؤلاء القضاة وطمأنهم الى أنّ رئيس الجمهورية وعده، والى أنه سيتم توحيد الضرائب التي ستحوَّل كلها الى صندوق المالية، التي بدورها ستعود وتغطي حقوق القضاة. لكن يبدو حسب المصادر القضائية المتابعة أنّ القضاة لم يقتنعوا بتطمينات فهد، متسائلين ماذا سيحصل لو تكرّر معهم سيناريو عدم دفع وازرة المال النفقات السرّية للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي؟ وهل مَن يضمن عدم حصول أمر كهذا في بلدٍ تحكمه المصالح والمناكفات السياسية؟ ماذا سيتبقّى من استقلالية السلطة القضائية؟ وهل أصبحت «استقلاليةُ» مصرف لبنان التي أقرّت بها الحكومة أهمَّ من استقلالية القضاء المنصوص عليها في الدستور؟

 

لذلك ترى المصادر القضائية المتابِعة أنّ الأمر أبعد من مجرّد مخصّصات، فالقضاة يشعرون بانتقاص من معنوياتهم عبر التطاول على ضماناتهم وجعلهم رهينةً للقرار السياسي حتّى في معيشتهم. بيد أنّ ذلك ليس بمستغرَب من السلطة السياسيّة التي تجد منفعة في استتباع القضاء بعكس ما هو الحال في ما خصّ مجلس القضاء الأعلى الذي ظهر بمظهر المتفرّج العاجز عن إحداث أيِّ تغيير. فبمقارنةٍ بسيطة بين ما قام به وزير الدفاع وقيادة الجيش في ما يتعلّق بحقوق العسكريين وبما قامت به حاكميّة مصرف لبنان في ما خصّ حقوق موظّفي المصرف من جهة اولى، وبين ما قام به مجلس القضاء الأعلى في ما يتعلق بحقوقَ القضاة من جهة ثانية، يمكن للمراقب رصدُ العجز في الدفاع عن معنويات القضاة. لذلك يرى هولاء القضاة، في رأي المصادر نفسها، أنّ أداء رئاسة المجلس الأعلى يُشعر القضاة بأنّ «وليَّ أمرهم» لا يشعر بوجعهم في اعتبار أنّ لهم مداخيل عدة لا يحصل عليها إلّا المحظيون فقط، وبالتالي فإنّ السياسيين الذين لا يعرفون الّا هذه الفئة من القضاة يتولّد لديهم الإقتناع بأنّ القضاة مرفّهون ويستحقّون تقليص مستحقّاتهم.

 

لذلك، وفي رأي المصادر القضائية أنّ الأزمة بالنسبة الى هؤلاء القضاة هي معنويّة بالدرجة الأولى وداخليّة اساساً، وتبقى العبرة في قراءة الرسائل الصادرة عن القضاة المعتكفين، والظاهر منها هو قبل كل شيء إحداث تغيير في الإدارة القضائية، فالإدارة الحالية المتمثّلة بمجلس القضاء الأعلى أثبتت عدم التجانس، وفشلاً في توحيد كلمة «العدل» تجسَّد بثلاثة اعتكافات ونشوء نادٍ للقضاة خلال فترة لا تتعدّى ثلاث سنوات. ويتّضح أنّ العدّة الحاليّة ما عادت تفي بالمطلوب بحسب ما يُستشفّ من انتفاضة القضاة في وجه مجلسهم الذي لم يتوانَ عن إصدار قرارات تقمع حريتهم بالتعبير كإغلاق غروبات «الواتساب» الخاصة بهم، وإرسال كتب سرّية تحذّر من الانتساب الى «نادي القضاة»، إضافةً إلى إحالة عدد من المنتسبين إليه على التفتيش القضائي.

 

وبالتالي يعترف هؤلاء القضاة، بحسب المصادر نفسها، بعدم قدرتهم على انتظار حملة ناجحة لمكافحة الفساد من سلطة قضائية رهينة إدارة ضعيفة من جهة، وتدخّلات سياسية لاستتباعها مالياً من جهة ثانية.

 

وتختم المصادر القضائية مؤكدة أنّ هؤلاء القضاة يعتبرون أنّه زمن «سيدر»، وينتظرون «اقتناع» الفرنسيين بجدّية الحكومة في مكافحة الهدر في المال العام، فيما يشاهدون هُم تمادياً من هذه الأخيرة في تطويع القضاة… وما على هؤلاء القضاة سوى الإنتظار مع الفرنسيين أن تُظهر الحكومة حسنَ نياتها عسى أن لا يطول الانتظار فشفير الهاوية لم يعد بعيداً بشهادة أهل السلطة قبل أهل القضاء».

 

ولكنّ فهد أوضح لـ«الجمهورية» حقيقة موقفه، فقال: «نحن سلطة قضائية ووزارة المال هي سلطة مالية ومفترَض أن تتعامل السلطات بعضها مع بعض بثقة وليس التشكيك بالآخر. أما التجارب السابقة مع وزارة المال التي تحدّث عنها القضاة المعتكفون في جلستنا معهم اليوم (أمس) فشرحها لهم رئيس صندوق التعاضد بالتفصيل وكانت كلها تجارب إيجابية مع القضاء». وتساءل فهد: «لماذا الحكم على النّيات؟». مضيفاً: «في حال توقفت وزارة المال في يوم من الأيام عن دفع مستحقات القضاة نلجأ عندئذٍ الى الإضراب، فلماذا افتراض الأسوأ من اليوم؟»

 

وأكد فهد أن له «ملء الثقة» بوعد رئيس الجمهورية وبالرئيسين نبيه بري وسعد الحريري، نافياً أيَّ حديث عن إحالة بعض القضاة الى المجلس القضائي قائلاً: «لم نبحث في هذا الأمر مطلقاً ولن نصل الى هذا الأمر أبداً، فنحن نشكل مع القضاة جسماً واحداً وهدفنا أساسي وواحد وهو استقلالية فعلية ضمن المفهوم الدستوري، أي التكامل والتعاون بين السلطات». وأوضح «أنّ الموازنة طرحت فكرة واحدة ونحن نعالجها وهي التعرض لضمانات السلطة القضائية وصندوق التعاضد ولم تبحث في قانون السلطة القضائية، لذلك لا يمكننا طرحُه اليوم في خضم درس الموازنة فيما هدفنا هو إشعار المواطن بوقوفنا الى جانبه ومساهمتنا معه».