Site icon IMLebanon

عودة «القاعدة» بعمامة إيرانية!  

 

ثمة أحداث في غاية الأهمية جرت في مسيرة انبعاث العقل: الإرهاب المتجدد في منطقتنا عبر تنظيم القاعدة وبعد الأفول المؤقت لتنظيم داعش وخلافته المزعومة، انبعاث «القاعدة» هذه المرة بعمامة إيرانية وخطاب سياسي أكثر من استخدامه كلاسيكيات المضامين الجهادية، وعبر تجاوز الجيل القديم المتمثل في أيمن الظواهري ومحاولة بعث الإرث القاعدي على طريقة التوريث من خلال إعادة تلميع نجل زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن (حمزة)، 25 سنة، الذي قضى في كنف ملالي إيران فترة طويلة من الزمن مسنوداً بذراع إعلامية قاعدية هو خبير «مؤرخ القاعدة» ومنظّر مرحلة الأفغان العرب المدرج من قبل الخزانة الأميركية على قائمة الإرهاب الدولية أبو الوليد مصطفى حامد، الذي قرر فتح خزانة رقمية كبيرة من طهران للتأريخ لـ«القاعدة» ومحاولة بعث أمجادها لدى الشرائح المستهدفة المحبطة من غياب «داعش» المؤقت، وبالمناسبة فأبو الوليد عاد منذ عام تقريباً من قطر إلى إيران وقد عمل في قناة الجزيرة مراسلاً إخبارياً ثم مرافقاً لأصهار أسامة بن لادن سيف العدل والإسلامبولي ثم متفرغاً لموقع «مافا» لتأريخ «القاعدة» منذ عام 2009 ومجلة «الصمود»، ومنظراً لحالة التعايش في كنف الإيرانيين مبدداً كل الأوهام حول إقامة القاعديين هناك بأنهم تلقوا مساندة ودعماً كبيرين، وأن العلاقة لم تكن عشوائية أو ظرفية قدر أنها تهدف إلى استهداف عدو مشترك وهو الأنظمة العربية وفي مقدمتها السعودية، وأن تكفير الشيعة أو الطرح الطائفي لبعض فصائل الجهاد إنما جاء من تيار متشدد داخل «السلفية الجهادية» ولم يكن اللافتة العريضة في منمنمات «القاعدة» الفكرية ومواقفها السياسية، ويذهب إلى أبعد من ذلك إلى تقديمه عرضاً للجهاديين بالتعاون والتعايش مع ملالي طهران وتوحيد الجهود للحرب على الصليبيين وحلفائهم «العالم دون إيران وأذرعها يصدق عليه هذا الوصف»!
نحن اليوم لا نتحدث عن فسطاطين اجترحهما بن لادن بين الإسلام والكفر، وإنما عن تحالفين بين الإرهاب المنظم المدعوم من دول لا يمكن أن تمرر وجودها السياسي المضطرب إلا بدعم خلايا وأذرع وميليشيات في المنطقة بحجة استعادة الخلافة أو الحرب على الصليبيين أو دعم فلسطين، وصولاً إلى مداواة جراحات الإسلام السياسي من الخروج من مشهد الربيع العربي، واستبدال العنف السياسي والاستفادة من فوضى الجماعات العنفية في المنطقة بالديمقراطية والتعددية السياسية الذرائعية.
بإزاء نعمة التعايش مع ملالي طهران خرج نجل زعيم «القاعدة» الشاب حمزة بخطاب ملتبس ومتناقض، حمزة الذي يجري تلميعه في الأوساط الجهادية لذلك التوريث المرتقب وقطع حالة الفراغ في أجيال «القاعدة» والبحث عن بديل أكثر حيوية وتواصلاً مع أجيال الشباب، الوقود الفاعل في تنظيمات العنف المسلح، يتحدث عن استعادة الخلافة «العثمانية» وأن السعودية سعت إلى الحرب على مشروع الخلافة، وهو خطاب ملتبس لأنه يقترب من مقاربة الإسلام السياسي لموضوع تقييم الخلافة العثمانية وحلم استعادتها منذ سقوطها، كما أنه يبتعد عن الخطاب الجهادي والعقل العنفي الذي تأسس على يوتوبيا الخلافة الراشدة وإحداث قطيعة تاريخية تجعله عالقاً في ماضٍ متخيل أكثر من الحديث عن امتداد زمني.
نحن اليوم أمام مشروع أكبر من العنف المسلح والإرهاب العابر، نعيش اليوم زمن الميليشيات وتحالف دول في طرح مشاريع أممية عابرة ومقوضة لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة المستقرة من خلال العودة؛ إما لمشروع الخلافة المتخيل أو محاولة اللعب على عواطف ومخيلة حقبة الخلافة العثمانية التي كانت إلى وقت قريب نهاية رجل مريض في ذهنية الإسلاميين أكثر من كونها مشروعاً تم استهدافه من قبل الصليبيين وحلفائهم، وإذا كان توجيه دفة الخطاب الإعلامي والسياسي المتضخم في تنظيمات العنف المسلح من «داعش» إلى «القاعدة» كان يتم عبر خلق مناخ الأزمة، فإنه اليوم يحدث بطريقة تبدو أقرب إلى رسائل يتم تمريرها عبر أذرع استخباراتية ومانحي الدعم من الدول التي تستثمر في الأزمات ومسببيها عبر الشعارات العريضة: «الأمة، فلسطين، الخلافة» وكل خطاب التمجيد اللاتاريخي وغير العقلاني الذي يجد طريقه سريعاً إلى الجماهير والشارع الإسلامي والعربي المصاب بمتلازمات الخيبة من الواقع، لا سيما في البلدان التي تعاني من أزمات اقتصادية كبرى وتحديات أمنية وسياسية، ومن هنا يمكن فهم توجيه مثل هذا الخطاب وتحديد السعودية دون غيرها، بحكم أنها تعيش نقلة على مستوى التجديد في الاقتصاد والخطاب والانفتاح على العالم المسنود بإرادة مجتمعية قوية أثبتت بطلان كثير من الفرضيات المسبقة والأحكام الجاهزة عن المجتمع في عقود كان مختطفاً من الخطاب الحالم ذاته.
المتنبئون بزوال شبح «القاعدة» يشبهون عدداً من الحالمين في ملفات أخرى، كالمؤمنين بنبوءات نهاية العالم أو سقوط وانهيار الولايات المتحدة، ولذلك فإن غياب تنظيمات التطرف المسلح وعلى رأسها «القاعدة» عن المشهد منذ اندلاع الثورات، يعود إلى أسباب تتصل باستراتيجية التنظيم في تعامله مع الأزمات الكبرى التي لا يكون هو فيها الطرف الفاعل، وهو الدخول في حالة «الكمون» وبدء مرحلة إعادة البناء في هذه الأوقات الذهبية بالنسبة للتنظيم الخارج عن حسابات السياسة وتعقيداتها اليومية. التنظيم بالمجمل يجرّم – كما في أدبياته العملية الانتخابية وتوابعها كجزء من حربه لمفهوم الدولة بالمعنى الحديث – الدولة القُطريّة التي فرقت الأمة وهدمت الخلافة وأسقطت هيبتها، لكنه يقف في حال دخول طرف محسوب على الإسلاميين في دعمه ولو على حساب الخلافات بينه وبين الفصائل السياسية التي وصلت إلى الحكم، فهو خلاف في التفاصيل وآليات العمل والبرامج، لكنه اتفاق عام في الأهداف ومنها الخلافة، وكل مداميك البناء التقليدي للإسلام السياسي.
منطق «القاعدة» بعد الثورات كان منحازاً سياسياً أكثر من كونه ممثلاً أميناً لفكر التنظيم، ولعل ثقة «القاعدة» بنفسها تجلّت في النجاحات المتتالية لها في إقامة مجموعاتها الصغيرة سريعة النمو في البلدان التي فشلت في استثمار الثورات لمصلحة بناء الدولة، الأمر يحدث بكثافة نوعية في اليمن وليبيا وشمال أفريقيا وبنسب أقل في تونس وسوريا. والأكيد أن قوة «القاعدة» في أفكارها العابرة للقارات التي تصل إلى شرائح جديدة كل يوم بسبب تفاقم الأزمات على مستوى الهوية والانتماء في ظل الاضطرابات السياسية، فيما تتحكّم العوامل الاقتصادية وحالة التهميش الاجتماعي لمسلمي أوروبا في تبني خيار «القاعدة» ولو بشكل تدريجي وبين مجموعات وفئات سِنية معينة… الخلاصة ثمة نشوة قاعدية تطفو على السطح هذه الأيام وبدعم مشبوه من دول وكيانات خلق الأزمات.