Site icon IMLebanon

عودة «الشعبوية» إلى أوروبا

 

في عام 1994 عرفت رواندا (احدى الدول الافريقية) مجرزة ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا. تشتت عائلات واغتُصبت نساء، وتيتّم أطفال. احد هؤلاء الأطفال وجد حضناً دافئاً لدى عائلة فرنسية تبنّته وأحسنت تربيته وتعليمه وأعطته اسمها. في عام 2017 انتُخب «هيرفيه بيرفيل» عضواً في البرلمان الفرنسي ضمن اللائحة المؤيدة للرئيس ماكرون.

 

لم يكن بيرفيل العضو الأسود الوحيد في البرلمان. هناك عضوان آخران. ويشير وجودهم الى التسامح الذي يتمتع به المجتمع الفرنسي. غير ان هذا الواقع بدأ يتغير الآن. وينعكس هذا التغيير في تعرّض النواب السود الثلاثة للاعتداء في الشارع.. وحتى في بيوتهم. كما ينعكس تضخماً كبيراً في عدد الحوادث العنصرية واللاسامية خصوصاً ضد اليهود الفرنسيين. وتقول الاحصاءات الرسمية الفرنسية ان نسبة هذه الحوادث ارتفعت بين عامي 2017 و 2018 بنسبة 74 بالمائة. حتى قبور اليهود في فرنسا لم تسلم من أعمال الاعتداء حيث تُرسم عليها شارة الصليب المعكوف (شعار النازية).

 

ومن أسباب هذه الموجة المتضخمة، معارضة سياسة الرئيس الفرنسي ماكرون الاقتصادية والاجتماعية، وذلك على خلفية انه متخرّج من مؤسسة روتشفيلد (اليهودي) ؛ وكذلك من خلفية اتهامه بأنه يلتزم بسياسة مالية تتجاوب مع مصالح هذه المؤسسة –ومثيلاتها- على حساب حاجات الفقراء (مظاهرات أصحاب السترات الصفراء التي تجتاح المدن الفرنسية بما فيها باريس كل يوم سبت، ومنذ عدة أشهر ).

 

ونقلت الصحف الفرنسية عن وزير الداخلية كريستوف كاستانيه قوله: «ان اللاسامية تنتشر في فرنسا انتشار النار في الهشيم». والسؤال هو: لماذا؟

 

في أحد الشوارع الرئيسة في باريس أُوقف الفيلسوف الفرنسي من اصل بولوني آلان متكلكروت -أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون- وأُعتُدي عليه على خلفية يهوديته. ووُجهت اليه اتهامات عنصرية مقذعة. الأمر الذي يشكل ظاهرة سلبية جديدة في المجتمع الفرنسي.

 

كذلك أُعيد طبع وتوزيع كتاب قديم (كان طُبع للمرة الأولى في عام 1886) عنوانه: «فرنسا اليهودية». ثم أُتلف وفُقد من الاسواق. وهو من أشد الكتب عنصرية وعداء لليهود ؛ فمن الذي تولى إعادة طبعه؟ ولماذا؟..

 

تقوم فكرة الكتاب على أن فرنسا لن تكون أبداً وطناً لليهود. وبالفعل كان اليهود في القرن الخامس عشر ممنوعين من دخول فرنسا. الا ان الأمر تغير بعد ذلك ليعود وينتكس الآن مرة أخرى.

 

يعزو علماء الاجتماع السياسي في فرنسا هذا الأمر الى تنامي ظاهرة الشعبوية في أوروبا. فقد أدت هذه الظاهرة الى إطلالة جديدة وجريئة للنازية في ألمانيا. كما أدت الى تراجع شعبية المستشارة الألمانية انجيلا ميركل (رداً على انفتاحها الانساني على اللاجئين). ويُعزى ارتداد بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي الى هذه الظاهرة أيضاً.

 

تقول الدراسات الإحصائية البريطانية أن 50 بالمائة من اليهود كانوا يشكون من مشاعر اللاسامية في عام 2012، وأن هذه النسبة ارتفعت الآن الى 75 بالمائة. ويترافق هذا الارتفاع مع انفجار ظاهرة الشعبوية التي دفعت البلاد الى مأزق البريكست –أي «الاستقلال» عن أوروبا -. وبالفعل تم تسجيل 1652 حادثاً معادياً لليهود في بريطانيا في عام 2018 وحدها. وقد انفجرت هذه الظاهرة حتى داخل حزب العمال، مما حمل بعض أعضائه على الاستقالة، وكان من بينهم الكاتب المعروف دافيد هيرش مؤلف كتاب: «لاسامية اليسار المعاصر».

 

وهذا يعني أن اللاسامية ليست مجرد ظاهرة يتميز بها اليمين السياسي في أوروبا، ولكنها تغلغلت حتى الى اليسار السياسي أيضاً.

 

وقد تمكنت «الشعبوية» الحادة من فتح الطريق أمام أحزاب وحركات سياسية عنصرية للوصول الى السلطة في العديد من الدول الأوروبية الأخرى بينها تشيكيا ورومانيا وبولندة.

 

الا ان الأمر الاشد سوءاً هو ما تشهده فرنسا اليوم التي سبق لها أن مرت بتجارب مُرَّة في تاريخها الحديث –حكومة فيتشي الموالية للنازية- على خلفية هذه الثقافة العنصرية والتي دفعت ثمنها غالياً جداً.. رغم انها ترفع دائماً شعار الثورة الفرنسية: «حرية – عدالة –مساواة». ويمكن القول استناداً الى تجارب التاريخ الأوروبي انه اذا «عطست» فرنسا، فان أوروبا كلها تصاب بالزكام». وأول الغيث قطر.. ثم ينهمر !!..