تجاوز مناخ ما بعد قمّة هلسنكي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب، طرائق طرح موضوع عودة اللاجئين السوريين السابقة على هذه القمّة. من ناحية، الواقع الميداني السوري الذي تبدّل رأساً على عقب من بعد التدخّل الجوّي الروسي معطوفاً على المؤازرة الإيرانية للنظام السوري، هو معطى لا يمكن اشاحته جانباً عندما يتعلّق الامر بهذه القضية. من ناحية ثانية، عودة اللاجئين لا يمكن ان تكون جدية إذا اعتقد انها بحث عن “تعاقد جديد” بين النظام وبين هذه الملايين التي التجأت الى البلدان المحيطة لسوريا والبعيدة.
الى وقت قريب، كان يجري بعثرة التركيز على قضية اللاجئين، تارة بالجدل حول عودة آمنة في مقابل المطالبة بإعادتهم الى المناطق التي لم يعد فيها قتال، وتارة اخرى بالجدل حول اذا كان النظام يقبل أو يرفض أو يسعى إلى عودتهم إو إلى إعادة اعتقال البعض والتنكيل بالبعض الآخر، وإذا كانت العودة تقتضي حلاً سياسياً شاملاً لسوريا، أو سلسلة مصالحات محلية اهلية، وما إذا كانت تلك الاخيرة واقعية وجدّية أم صوَريّة وسهلة الانقضاض عليها. ضغط هذا الملف في السنوات الماضية على الحياة السياسية اللبنانية، خاصة وأنه وُجدت صعوبة لإبعاده عن التوظيف الداخلي التعبوي، وعن الانقسام الأساسي على خلفية الموقف من النظام السوري ومن حلفائه في الداخل اللبناني.
مع مناخ قمّة هلسنكي والخطوات الروسية التالية، المتمثلة بإنشاء مركز لإعادة اللاجئين، وطلب وزير الخارجية الروسية من عدد كبير من الدول ارقاماً دقيقة حول عدد اللاجئين السوريين عندها، والمقترحات الروسية المقدمة الى الجانب الاميركي، ثمة طرف، روسيا الاتحادية، يطرح نفسه لدور جديد من بعد التدخل لدعم النظام، الذي نجح الى حد كبير، والتدخل للتسوية السياسية، الذي فشل الى حد كبير، بما في ذلك عدم تمكن موسكو من تمرير مسودة الدستور الروسي البديل لسوريا وجعله مقبولاً لدى حلفائها في “الممانعة”، وضبط روسي صعب للحرب المتقطعة الجزئية الاسرائيلية ـ الايرانية في سوريا. وها ان موسكو تنهض للمهمة التي اعتبرها العالم مهمة تائهة ومؤجلة، عودة اللاجئين. تستفيد طبعاً من تجربة تدخلها الحربي في سوريا، وبخاصة من تجربة مناطق سيطرة الشرطة العسكرية الروسية فيها.
الى حد ما، انعكس الضعف في الثقل النسبي للجانب الاميركي في هلسنكي من خلال قبول اميركي اولي للرعاية الروسية لملف اللاجئين، من دون ان يلغي هذا استشراف تناقضات لن تلبث ان تظهرها الادارة الاميركية لاحقاً، وابتداء من مناقشة المقترحات العملية التي ستقدمها روسيا.
انما يظهر من الآن ان جوهر المعادلة العملية لاعادة اللاجئين بات يرتكز على ربطها بإعادة إعمار سوريا، وبالاخص إعادة إعمار المناطق التي هجر منها اللاجئون، ولم يعد لهم ما يأويهم فيها، ولا شروط صالحة للعمل والاستشفاء والتعليم والحياة.
وهذا يفتح المجال لتقسيم عمل الى حد كبير، بين دور روسي متقدّم في تأمين شروط العودة المضمونة والآمنة وبين دور عربي وغربي متقدّم في الإقلاع بإعادة الإعمار.
مشكلة هذا التصوّر الى الآن مزدوجة: الحرب السورية قد تكون أشرفت على نهايتها، لكنها لم تنته بعد، والمناطق التي لا تزال غير خاضعة للنظام والايرانيين والروس ليست بتفصيل. ومن ناحية ثانية، إعادة الإعمار التي باتت عودة اللاجئين مرتبطة بها، تفتح بدورها على لزوم اعادة الحديث جدياً في الحل السياسي.
نحن امام نقلة نوعية في طريقة طرح موضوع عودة اللاجئين إذاً، إنّما لها حدودها، ولها جوانب غامضة كثيرة. في نفس الوقت، كل هذا يُدخلنا في مفارقة نظام سوري تمكّن من الاستمرار كنظام احتضار دموي مزمن، لأسباب عديدة ليس أقلّها مكامن الخلل في حركة الثورة السورية، ودعم ايران وروسيا اللامحدود له، وتراخي ادارة اوباما في اللحظة المفصلية، بعكس حاجة بوتين الى هذا التدخل، خصوصاً بعد تأزم الاوضاع مع الغرب على خلفية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.
في المقابل، الخيار الافضل للبنان، تمثّل في المسارعة للتنسيق مع الجانب الروسي، في حدود اللحظة الحالية، لحظة طرح موسكو لمقترحاتها الاولية للمسألة، ومساعي الرئيس سعد الحريري يُنتظر ان تتابع في هذا الاطار. يبقى ان المسارعة في تشكيل حكومة جديدة أكثر من أساسي كي يأخذ هذا التنسيق مجاله الكافي.