بعد استقلال أفريقيا وآسيا عن بريطانيا في خمسينات وستينات القرن الماضي، وتزعم الولايات المتحدة «العالم الحر»، وتجديدها الأساليب الاستعمارية، المباشرة وغير المباشرة، لجأت لندن إلى توثيق علاقاتها مع واشنطن، معتبرة الأميركيين «أحفادنا عبر الأطلسي»، على ما كانت تقول مارغريت ثاتشر، لكنها في الوقت ذاته كانت تحاول جاهدة «التعايش» مع أوروبا التي كانت في طور النهوض من دمار الحرب العالمية الثانية.
بعد 44 عاماً على «نصف» انتماء إلى أوروبا قررت لندن الانسحاب من الاتحاد للالتحاق بالسوق العالمية والانفتاح على الصين واليابان وكندا، بدلاً من ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، والتخلص من القيود القانونية التي تسنّها المفوضية الأوروبية غير المنتخبة ديموقراطياً، على ما يرطن مؤيدو الانفصال، مرددين قول تشرشل لديغول: «في كل مرة يطرح علينا الاختيار بين أوروبا والبحار المفتوحة، سنختار البحار المفتوحة». والواقع أن جزءاً كبيراً من البريطانيين ما زالوا يعتقدون بأن المحيطات بحيرة يجوبها أسطولهم الملكي من دون إذن أحد، خصوصاً في الريف، حيث يعيشون أمجاد الماضي، متوهمين أن في استطاعتهم السيطرة على العالم وفرض قوانينهم الخاصة التي فرضتها شركة الهند الشرقية على آسيا وكل منافسيها المستعمرين الأوروبيين، مطلع القرن التاسع عشر. ولم تصلهم شروط الهند التي وضعها رئيس الوزراء ناريندرا مودي أمام تيريزا ماي خلال محادثاتهما في نيودلهي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ومنها اعتذار لندن عن حقبة الاستعمار وتسهيل دخول عشرات آلاف الهنود للعمل والدراسة في بريطانيا، فضلاً عن قوانين وطنية تقيد حرية المستثمرين لم تكن موجودة في الماضي. لم تصلهم الشروط لأن ماي المتحمسة للانفصال عن أوروبا لم تطرحها للنقاش، واكتفت بالقول إن زيارتها الهند كانت واعدة وإن لندن ستكون رائدة التجارة الحرة بعد انفصالها عن بروكسيل، لأنها ستتخلص من القوانين التي تعيقها.
وراء كل هذا الجدل بين البريطانيين أنفسهم، وبين حكومتهم والاتحاد الأوروبي، ما هو أبعد من القوانين التجارية. إنه الصراع القديم المتجدد على النفوذ بين دول الاتحاد. صراع تسبب بحربين عالميتين في القرن العشرين، ويتجلى الآن في المنافسة بين بريطانيا وألمانيا على زعامة الاتحاد والتحكم به، خصوصاً أن برلين تهيمن عليه، بالتفاهم مع باريس. وليس أمام لندن سوى اللجوء إلى أميركا دونالد ترامب الذي لا يرى في الاتحاد سوى تجمع يضر بمصالحه الشخصية وبتطلعه إلى الاستثمار في بعض دوله المقيدة بقوانين بروكسيل. ومن أفضل من صديقه البريطاني زعيم اليمين المتطرف نايجل فراج في التعبير عن هذا التوجه، فما أن أرسلت ماي طلب الانفصال إلى المفوضية الأوروبية، حتى «شرب نخب الاستقلال»، واعتبر الطلب بداية تفكك الاتحاد، موجهاً كل انتقاده إلى ألمانيا، داعياً دول أوروبا الشرقية الضعيفة، خصوصاً بولندا، إلى التخلص من هيمنة برلين، متجاهلاً قرار اسكتلندا الاستفتاء على الاستقلال عن المملكة المتحدة احتجاجاً.
الخوف من قوة ألمانيا يعود بقوة إلى أوروبا، وتفكيك الاتحاد والتوجه إلى الولايات المتحدة والانفتاح على البحار وسيلة بريطانيا الوحيدة لإضعاف برلين في محيطها.