يُعلن الرئيس دونالد ترامب الإثنين استراتيجية جديدة للأمن القومي الأميركي ذات أربعة أعمدة تُشكّل عقيدة هذه الإدارة للسنوات المقبلة، عناوينها الرئيسيّة هي ضمان «السلام من خلال القوة»، وتعزيز النفوذ الأميركي في العالم. مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض هربرت ماكماستر قدّم لمحة عن هذه الاستراتيجيّة مُستخدماً تعابير لافتة في وصف روسيا والصين بالقوّتين «التحريفيّتين»، وإيران وكوريا الشمالية بالدول «المُتحايلة».
ماكماستر وضَعَ «التنظيمات الجهاديّة المتطرّفة» في المرتبة الثالثة من التحدّيات بأوسع من نطاق «داعش» أو «القاعدة»، إذ أضاف إيديولوجيّة «الأخوان المسلمين» إلى قائمة الخطر واتَّهم تركيا وقطر باعتمادها ودعمها وتسويقها. موسكو رَدّت بسرعة وبتحجيم لـ«معرفة» مستشار الأمن القومي الأميركي، نافية القيام بأيّ «نشاطات تخريبيّة متطوّرة ضد الولايات المتحدة».
رافق ذلك استمرار التراشق بين واشنطن وموسكو، إذ ردَّ الكرملين على تشكيك واشنطن بتحقيق الانتصار الروسي على «داعش» في سوريا، وادّعائها أنّها هي التي حقّقت ذلك الانتصار، بالقول إنّ «الهزيمة يَتيمة لكنّ النصر له آباء كثر».
التراشق الأميركي – الروسي في سوريا سطحيّ من جهة، وعميق من ناحية أخرى بالذات فيما يتعلّق بمَن هو باقٍ ومَن هو راحل عن سوريا، من القوات الأميركية إلى القوات الروسية والإيرانية والتركيّة إلى بشار الأسد.
سورياً أولاً. المصادر الأمميّة تقول إنّ الحكومة السورية في صَدد قتل «عمليّة جنيف» التي كان مجلس الأمن دعَمَها وتبنّاها كخريطة طريق للتسوية السياسيّة في سوريا عبر حكومة انتقاليّة ذات صلاحيّات تنفيذيّة. رأي دمشق هو أنّ رصاصة «سوتشي» ستكون القاضية على «جنيف». فانعقادها كمحطة أخيرة بلا استطراد هو تماماً ما تُريده الحكومة السورية.
هناك في «سوتشي» وتحت القيادة الروسية الحليفة للحكومة السورية، يُمكن لدمشق «تطويع» العملية الانتقاليّة لمصالحها بعيداً عن مسار الأمم المتحدّة و»جنيف» ومطبّات الدستور والإنتخابات ومتطلّبات المرحلة الانتقالية.
في الوقت الحاضر، تُجري الأمم المتحدة على مستوى المبعوث ستيفان ديماستورا محادثات معمّقة مع السلطات الروسية المعنيّة للاتفاق على المبادئ التي تَربط «سوتشي» بـ«جنيف».
أملها أن يُعقَد الحوار الوطني في «سوتشي» على أساس تكريس عمليّة الأمم المتحدة للإشراف على الدستور والانتخابات كهدف للحوار. إذا تعثّرت هذه المباحثات وأخفقَت جهود ديماستورا الرامية إلى تحديد إطار واضح لعملية «سوتشي»، عندئذٍ تُصبح «سوتشي» البديل عن «جنيف». وهذا يعني انتهاء فكرة الحكومة الانتقاليّة ذات الصلاحيّات التنفيذيّة الكاملة، كما وعَد بها مجلس الأمن في أكثر من قرار.
ماذا عن دور وزير الخارجية السابق فاروق الشرع وبروز كلام عن تَولّيه رئاسة المرحلة الانتقاليّة؟ يقول مصدر أممي مُطّلع إنّ أحد أطراف المعارضة السورية اقترَح على روسيا أن يترأس فاروق الشرع اجتماع «سوتشي» لأنّه يُفترض أن يكون مقبولاً لدى الحكومة والمعارضة. الروس أُعجبوا بالفكرة وفاتَحوا دمشق بها. إنّما، وبحسب المصدر نفسه، لم تردّ الحكومة السورية واكتفَت بـ«سنرَى».
إذا وقع الاتفاق على رئاسة الشرع لاجتماع «سوتشي»، الأرجح أن يتم توسيع دوره ليترأس حكومة وطنيّة موسّعة يُوافق عليها الطرفان. إنما هذا لا يعني تنحّي بشار الأسد عن السلطة. فتلك هي «عملية جنيف». وإذا جاء الشرع إلى رئاسة حكومة إنتقاليّة، فإنه يأتي عبر بوابة «سوتشي» المختلفة كثيراً عملياً وسياسياً.
الإدارة الأميركيّة تبدو أقلّ اهتماماً بناحية الأسد وصلاحيّاته ومصير الحكومة الانتقاليّة ممّا هي بالتواجد الأميركي العسكري الدائم في سوريا. فهي عازمة على ألّا تَستفرِد روسيا بهذا الموقع الاستراتيجي وتستبعد المصالح الأميركية. مواعيد الدستور والانتخابات لا تشغل بال واشنطن بقدر مصير الاستراتيجيّة الإيرانية في سوريا، تحديداً ذلك الممرّ عبر الحدود العراقيّة – السوريّة الى لبنان.
المصادر العسكرية الأميركية الرفيعة المستوى تَهَكّمت على التكهّنات بأنّ واشنطن ستغضّ النظر عن توطيد القدم الإيراني في سوريا بصورة تكسب لها حزاماً استراتيجياً أساسياً لسياساتها الإقليمية. المصادر الديبلوماسيّة أشارت إلى أهميّة تحرّك الإدارة الأميركيّة هذا الأسبوع في الشأن الإيراني، قبل إعلان الرئيس ترامب استراتيجيّته الجديدة للأمن القومي.
هربرت ماكماستر والسفيرة الأميركيّة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي تحرَّكا لإبراز نوايا التصدّي لإيران، خصوصاً في سوريا كما قال ماكماستر، وفي اليمن كما أعدّت هايلي ملفّها ضدّ إيران في الأمم المتحدة.
نقطة انطلاق الحملة الأميركية على إيران في موضوع اليمن هو قرار مجلس الأمن الذي يُحظّر على إيران توفير الأسلحة والصواريخ الى الحوثيّين. لدى هايلي «الأدلّة» على دعم إيران للحوثيّين، وهي تَنوي طرحها في مجلس الأمن بعد عرضها أمام الإعلام والرأي العام لحَشد الدعم لسياسة أميركيّة صارمة مع إيران في موضوع اليمن.
هذا بحدّ ذاته تحوّلٌ في السياسة الأميركية التي ابتعَدت في السابق عن ملفّ اليمن. وهو أيضاً تحوّلٌ عن سياسات إدارة أوباما التي تجنَّبت بأيّ شكل كان تحدّي عامل السياسات الإيرانية الإقليمية بما فيها التدخّل في اليمن.
هذا التغيير مهمّ لأنّ له جانباً يتعلّق بالعلاقات الأميركية – السعودية في عهد إدارة ترامب التي استُأنِفَت كعلاقات تحالف استراتيجيّة، بعدما كان الرئيس السابق باراك أوباما قد حيَّدها وجمَّدها وخفَّضها الى مرتبة ثانية تَلي الأولوية الإيرانيّة لديه. وهو مهمّ أيضاً لأنّ أوباما كان حرَّر إيران من قرارات لمجلس الأمن فرَضت عليها حَظر مدّ السلاح والعتاد والرجال لأيّة دولة أخرى أو ميليشيات بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
فعل ذلك من خلال إبطال هذه القرارات بموجب صفقة الاتفاق النووي مع إيران. واليوم تأتي إدارة ترامب لتُحاول إعادة فرض الحظر من بوابة اليمن على أساس انتهاك قرار دولي مُلزم، الأمر الذي تترتَّب عليه العقوبات.
هدف هايلي هو تقديم الأدلّة على الانتهاكات الإيرانية وتهديد استقرار حلفاء الولايات المتحدة عبر إطلاق الصواريخ البالستيّة ضدّها، وذلك للضّغط على دول الاتحاد الأوروبي كي تكفّ عن الحماية التلقائيّة لإيران صيانةً للاتفاق النّووي. فإدارة ترامب تنوي شنّ حملة مع الأوروبيّين هدفها إنزال العقوبات بإيران، بالذات «الحرس الثوري» الذي يتوغّل في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
وبحسب مصدر أميركي رسمي، لربّما من المستحيل إصدار قرارات تفرض العقوبات على إيران في مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسيّ والصينيّ. إنّما ليس من المستحيل التحدّث بلغة صارمة مع الأوروبيّين عندما يتعلّق الأمر بإثبات تورّط إيران في زَعزعة استقرار حلفاء الولايات المتّحدة.
العقيدة التي من المتوقّع للرئيس ترامب الكشف عنها الإثنين سترتكز على التصدّي لمصادر تهديد الأمن القومي، كالتزام استراتيجي. التصدّي لإيران كسياسة وفلسفة وعقيدة لإدارة ترامب يُطيح عقيدة أوباما التهادنيّة مع إيران بالذات من ناحية مغامراتها الإقليميّة.
الجديد في عقيدة ترامب هو إدخال عنصر «الأخوان المسلمين» على قائمة «الإسلام الراديكالي» وتحميل تركيا مسؤوليّة رعاية «الأخوان» وقطر مسؤوليّة دَفعهم. هذا بالموازاة مع توسيع بيكار التطرّف الإسلامي ليشمُل التنظيمات الشيعيّة برعاية إيران وليس فقط «الأخوان المسلمين» من السنّة برعاية تركيا.
الأولويّة في عقيدة إدارة ترامب ليست للدوَل «المُتحايلة» مثل إيران وكوريا الشمالية، بقدر ما هي للدول «التحريفيّة» التي تعتَمد سياسة «تخريب» السياسات الداخلية للدول و«تُقوّض» النظام الدولي وتشنّ العدوان الاقتصادي، مثل روسيا والصّين، كما صنَّفها مستشار الأمن القومي الأميركي.
هربرت ماكماستر ليس ريكس تيليرسون وزير الخارجية الذي يَكبحه البيت الابيض كلّما نَطق، وآخر ذلك عندما أبدى استعداداً «لحوار بلا شروط» مع كوريا الشمالية. ماكماستر هو من أهمّ أركان إدارة ترامب، وهايلي منفّذة صلبة لِما يُريده الرئيس الأميركي. ما قالاه هذا الأسبوع هو مقدّمة لِما هو آتٍ على لسان دونالد ترامب في إطار استراتيجية الأمن القومي الاميركي، وقوامها عقيدة «القوّة» والإقدام الى الامام بدلاً من عقيدة الحكم من الوراء.