الثورات العربية في ميزان شبابها
الثورة أنثى. والثورة رجل. والثورة أفراد وشعوب وأوطان. لكن هل الثورة قابلة للهزيمة؟ تشي غيفارا قال ذات يوم: هو غباء التصوّر بأن الثورة تُهزم، لكن ماذا تقول تجارب شعوب عربية ثارت في الأمس أو تثور اليوم؟ ماذا عن الثورة المصرية؟ ماذا عن الثورتين السورية والعراقية؟ كمّ نُشبه بعضنا؟ كم نتلاقى وكم نفترق؟ وهل يتابع الشباب العربي نضال الشباب اللبناني في سبيل لبنان نزيه، نظيف ونقيّ؟
إلتقيناهم مجموعة شباب وصبايا، من جنسيات عربية مختلفة، على هامش مؤتمر في العاصمة الأردنية عمان. شبابٌ عرب عُجنوا مثلنا بإخفاقات وخيبات وبإنتصارات ورجاء. وذاقوا الأمرّين على مدى تسعة أعوام. هم مثلنا إنتفضوا على نهج ونمط ونهب ونصب وفساد لكن هل نحن مثلهم نتبع نفس النهج الذي يوصل الى نفس النتيجة؟ إبراهيم الطيّب، الكاتب في صحيفة “المصري اليوم” ومدير تحرير برنامج رأي عام مع عمرو عبد الحميد، شاهد أربع مرات فيديو الفتاة اللبنانية التي قدمت وردة الى العسكري اللبناني وبكى وهو يرى العسكري، في بزّته، يبكي. وهو لم يشبع أيضاً من تكرار مشاهدة فيديو الجندي اللبناني الواقف على جسر الرينغ ويده في يد حبيبته ويقول: ثورتكم في لبنان جميلة جميلة.
جميلٌ أن يُعجبُ الشباب العربي بثورتِنا لكن، أليست ثورتنا كما ثوراتهم؟ هل استسلموا هم؟ هل وقعوا أسرى أفخاخ ما قوّضت ثوراتهم؟ فلنسمع عنهم علّنا نتجنب السقوط حيق سقطوا.
يبدأ الطيّب كلامه من مصطلح الثورة: جذب هذا المصطلح غالبية المصريين، كما غالبية الشعوب، في البداية. كان فكرة جميلة، لكن مع مرور الوقت، بعد تسعة اعوام، تبدّلت الصورة كلياً وأصبح من يتعاطفون معها في مصر، نادرين. هناك، عندنا، بدأت الثورة جميلة ورقيقة وراقية ولها أهداف واضحة. والحمد لله نجحت في بداياتها نجاحاً باهراً بفضل وضوح المطالب، من دون أن يكون لها رأس واحد. وعندكم، في لبنان، كما عندنا، كانت تظاهرات عفوية جداً، خرج فيها المواطن البسيط الى الشارع ليقول: وضعي بات صعباً جداً، لكن ما حصل عندنا أن السياسيين قفزوا مجدداً على الثورة وعلى المكاسب البريئة التي حققها الشباب وسرقوها. وتولى الثورة أناس غير من قاموا بها. أتت جماعة الأخوان المسلمين، ما دفع المواطن المصري البسيط ليُردد: لم أقم بثورة لإيصال هؤلاء. وحدث الصدام وعدنا الى ما دون الصفر. وبات أهالي مصر يسمون ثورة يناير نكسة يناير.
شط الأمان
الثورة لا بُدّ منها. ضروريٌّ أن نثور. لكن، فلنتعلم من التجربة المصرية كي تصل الثورة اللبنانية الى شاطئ الأمان.
النموذج اللبناني، برأي المصريين، مختلف عن النموذج المصري، ويقول إبراهيم الطيّب: أنتم بدأتم بثورة جميلة لها اهداف واضحة. خرج الشعب اللبناني بمشهد جميل جداً تابعته الشعوب العربية بشغف واهتمام بالغين. وحصل حراك شبيه بالحالة المصرية في بداياتها حول مطالب إقتصادية واضحة، لكن، تدريجياً، رأينا بعض محاولات تشويه أو سرقة هذا الحراك. هذا ما حصل عندنا بالضبط. وهناك من حاول تظهير صورة عدم وجود أفق واضح للحلّ. وبدا وكأن ثورتكم اللبنانية تسير نحو المجهول. فلتنتبهوا. هناك من يحاول طمس روحية ثورتكم كما حصل عندنا.
ما رأي الإختصاصي في علم شفاء النفس الطبيب العراقي والمدوّن سيف جنان بثورة الشباب اللبناني، وهل تتلاقى في بعض المطارح مع ثورة الشباب العراقي؟
الدكتور جنان، موجود دائما مع الشباب العراقي، في الشارع وفي المستشفيات، يمنحهم الدعم ويبكي لوجعهم ويعمل على منحهم الدعم النفسي مردداً “أمين”. ويقول: الجيل العراقي الجديد أراد أن يقول للجميع: “بيكفي” Enough is enough.
نحن مَن سيُحدث التغيير. وفي لبنان “صحوة” عامة جميلة أيضاً. والمطالب واضحة. هناك من خرج ليقول ثمة فساد ونحن نريد أن نبني للبنان جديد. نحن نستحق حياة أفضل. وكلانا، نحن العراقيين وأنتم اللبنانيين، متشابهان. وبلدنا العراق لم يهدأ من زمان للأسف. نحن نعيش في منطقة واقعة بين الخليج وإيران وتركيا. منطقة ثروات كبيرة وغير مستقرة سياسياً. والمخطط أكبر من حجمنا. العراق يفترض ألا يهدأ كي تتمّ السيطرة على ثرواته. وهناك ضغوطات من جنبات عدة لقمع الثورة.
العراق والدم الغالي
هل يشعر العراقيون أن إنتفاضة اللبنانيين كما حالتهم؟ يجيب جنان: هناك رؤية واحدة وهدف واحد لكن، هناك ضراوة أشدّ عندنا وتغطية إعلامية أقل. وهناك سيناريوات يحاولون إجبارنا، نحن وأنتم، على اعتمادها لكن هذا الجيل الجديد في البلدين لن يقبل بسيناريوات مكتوبة بل يريد أن يكتب مصيره بنفسه. ونحن، لأول مرة، نشعر بأننا سنصل الى مكان معين، مكان أفضل، ما دام الشعب قرّر ذلك لأن لا أحد يتمكن أن يقمع إرادة شعب كامل إلا إذا فرقوه، شرذموه، حينها يتمّ القضاء عليه. والشعب إذا أراد الحياة لا بُدّ أن يستجيب القدر.
هذا شعرٌ والشعر فيه خيال؟ يجيب الطبيب: هناك كثير من الشعارات، وحتى الخرافات، أصبحت حقيقة. والحلّ في البلدين أن نحبّ بعضنا بعضاً وإرساء مزيد من اللحمة. فانتبهوا الى من سيحاول إحداث الشقاق.
“شنو” الحلّ؟ العراقيون يصرخون لكل من حكموهم: “شلع قلّع… كلكم حراميي…
الشعارات العربية تتغير في اللهجة لكن مضمونها يبدو واحداً. فها هم في السودان يهتفون أيضاً مثلنا: ثوار أحرار حنكمّل المشوار.
نعود الى تجربة الثورة المصرية لنسأل من يتحمل مسؤولية إستسلام الثوار هناك؟ الثوار أنفسهم؟ السلطة “الشاطرة” في استخدام أوراق وخبرات لا يملكها الشباب؟
الثوار، بغالبيتهم، كانوا شباباً خرجوا ليقولوا: يا أولياء الأمور ويا صنّاع القرار حلّوا عنا. والثوار البسطاء، غير المسيسين، يتعبون على المدى الطويل. والسلطات تتّكل على هذا التعب لتستعيد بسط سيطرتها على أي حراك. وانطلاقاً من التجربة المصرية ينصح الصحافي ابراهيم الطيّب، الذي اختبر ثورة يناير بنجاحها وإخفاقاتها وجمالها وبراءتها، الشباب اللبناني بالتنبه الى مراوغة السلطة ومراهنتها على مرور الوقت وتعب الثوار، لأن لا أحد قادراً أن يثور كلّ الوقت. سيشارك يوماً ويومين وعشرة وشهراً وشهرين وثلاثة لكنه سيضطر أن يبحث عن عمل. هو يريد ان يأكل. فانتبهوا الى مرور الوقت. أمرٌ آخر إختبرناه أيضاً ويفترض التنبه له، هو أن هناك من وعدونا وحين دخلوا الحكم إكتشفنا أنهم ذوو حيثية “جوفاء”. إكتشفنا أنهم فارغون، عاجزون وكذبة. لذا عليكم أيها الثوار اللبنانيون أن تحسنوا الإختيار.
تشويه الحراك
أمرٌ آخر يُنبّه إليه من خاضوا تجربة الثورة المصرية: ستحاول السلطة إستغلال أي خطأ قد يرتكبه الثوار من أجل تشويه حراكهم. وسيتمّ تسلّل بعض الفئات المحسوبة على السلطة نفسها، بعضها مأجور، من أجل ارتكاب تصرفات باسمِ الثوار لتشويه صورة الثورة. أمرٌ ثالث يفترض التنبه له، وهو وجوب أن تبقى المطالب واضحة ولا تتفرع الى مطالب جانبية والضغط في اتجاه تحقيقها لأنهم سيقولون، إذا تشعبت المطالب، أن ضياعاً يسود الثورة. سيراهنون على هذا أيضاً. تابعوا بضغط قوي وواضح وثابت من أجل إجبار الجميع على احترام مطالبكم، كما لحظة نزولكم الى الشارع، حيث أعجب الجميع بقدرتكم على عرض مطالبكم.
هل يتمنّى المصريون اليوم لو تعود عقارب الساعة الى ما قبل ثورة يناير؟
نهى، صحافية مصرية تعمل في صحيفة كويتية، تتحدث عن ارتباط الغالبية العظمى من الشباب المصري، روحياً وإنسانياً، بالثورة، على الرغم من كل الإخفاقات التي مرّت فيها وتقول: ما زلنا نحبها. ابراهيم الطيّب يشاطرها الرأي معتبراً أن كثيراً من المصريين، الكبار في السنّ، نقموا عليها، وإذا ذهبتم الى مصر وسألتم عشرة كهول عن ثورة يناير، تسعة منهم سيشدون على “خناقكم”. الحياة اليوم صعبة جداً. تاريخياً، كانت المؤسسة العسكرية ملجأنا وسندنا. ولنا بعض الملاحظات على أدائها في الفترة الأخيرة، لكن يُحسب للرئيس السيسي أنه حفظ البلد من المؤامرات لكن الحرية تراجعت. هنا، تتدخل نهى لتقول: الحريات الإعلامية ضعفت جداً وتستطرد: الفنان عادل إمام، الذي انتظرناه في رمضان، منع فيلمه لأسباب سياسية. وهذه سابقة في مصر.
ينتظروننا على نار
الصحافي السعودي محمد، عاشق للبنان، لكنه لا يتابع كثيراً تفاصيل ما يحدث حالياً في لبنان، على عكس زميله في المهنة المصري ابراهيم الذي يقول: نصحو صبيحة كل يوم ونحن ننتظر ما ستبتكرونه في ثورتكم اللبنانية الجميلة من لقطات وأفكار لطيفة. الـ”كوميكس” لديكم خطير. ولديكم تلقائية وعفوية لم نرها في مكانٍ إلا عندكم. ثورتكم رائعة نظيفة عكس ثورتنا التي تخللتها شوائب كثيرة. نرجوكم أن تتابعوا ولا تصدقوا من سيحاول تمزيق وحدتكم للقضاء عليكم.
السوري رياض، شارك هو أيضاً في الثورة السورية. ثار واعترض ولوحق وها هو يعيش اليوم في مصر. ثمة منطقة في القاهرة تُسمى “منطقة السوريين” تضمّ أكثر من خمسة ملايين سوري. السوريون غادروا سوريا فهل استسلموا؟ هل فشلت ثورتهم؟ وهل لشباب لبنان أن يتعلموا شيئاً من تجربتهم؟
أسوأ ما مرّت به الثورة السورية هي إنقسام الثوار على أنفسهم، بعد اتفاقهم على ثوابت الثورة ومبادئها، وسماحهم بانتقال الخلافات الدولية والإقليمية اليهم وقضم حراكهم كمن يلتهم فستق عبيد. وظنّ البعض الآخر أن الدولة الأجنبية “تحلب معهم صافياً”، وأن البيت الأبيض في واشنطن سيُرسل لهم بوارج أميركية تقصف القرداحة وتبيد آل الأسد وينتهي الأمر. الأمر ليس أبداً هكذا. لا أحد يساعد الثوار إكراماً لثورة وحقوق وشعب. ثمة مصالح كثيرة فلا تصدقوا أحداً بسهولة بل تكاتفوا معاً لتكونوا أقوياء وتجبروا العالم على التيقن أن لا أحد سيتمكن من التهامكم فرداً فرداً.
تريدون أن تعرفوا بعد أين أخفقت التجربة السورية؟ يقال أن كلّ الإجتماعات التي كانت تُدعى إليها المعارضة، في بدايات الثورة السورية، كان يخرج منها من يلتقون بأعضائها: أن كلا من أفراد المعارضة يريد أن يكون زعيماً ويكره بقية أفراد المعارضة. لم تكن الثورة السورية متحّدة فانتبهوا.
لم تنتبه المعارضة السورية أيضاً الى “عامل الوقت” الذي هو لمصلحة السلطة دائماً. والى أن مرور الوقت جعل ملايين السوريين ينزحون أو يهاجرون، ما حرم الثورة من البيئات الشعبية الحاضنة وسهّل على النظام السوري تنفيذ مخططاته. فانتبهوا الى معادلتي الثورة ومرور الوقت.
تحيا الثورة
نمشي في الأردن. يسألوننا: من وين؟ نجيب: من لبنان. فيردّون: تحيا الثورة. الأردنيون يتابعون هم أيضاً الثورة اللبنانية ويفرحون. الشباب اللبناني الثائر نجح في نقل مشهدية جميلة راقية وصلت الى العالم العربي. الأردنيون يردّدون إسم علاء أبو فخر ويفتخرون. جميلة هي المشاعر التي يُظهرها أهل عمان تجاه الثورة اللبنانية. المصريون يسمّون هم أيضاً أول شهيد لثورة يناير وهو خالد سعيد الذي جعل كل المصريين يخرجون من بيوتهم. لكن، ما يقلقهم، أن هناك من خرج لاحقاً ليقول: هذا ليس شهيداً بل بلطجي. الثوار المصريون يعتبرون أن أشياء كثيرة ستؤثر على الثورة إذا تراخى الثوار، حتى مفهوم الشهادة سيتقزم.
أمرٌ أخير أجمع عليه الشباب العربي يستحقّ أن يعرفه الشباب اللبناني الثائر اليوم، وهو أنه كلما كانت ثقافة الشعوب عالية كلما كان صعباً السيطرة عليهم. واللبنانيون مثقفون. وهذا ما سيُجنبهم ويلات كثيرة. أهل السلطة يتصورون شعوبهم خرافاً تسهل قيادتها لكن اللبنانيين، بعيون الشباب العربي، لن يكونوا خرافاً.