IMLebanon

التضامن وقود الثورة

 

بمواجهة نهب السلطة والكارثة المقبلة

 

لم تنطلق شرارة الثورة في 17 تشرين الأول، بل أضرمتها النيران التي اشتعلت في الدامور قبلها بنحو ثلاثة أيام. يومها تداعى عدد من الناشطين للتضامن ومساعدة ضحايا النيران، بينما كانت الدولة غائبة عن السمع. بعد مبادرة المتطوعين التحق بهم أحد وزراء العهد “ليقطفها”، وفق تعبيرهم، قبل أن يطردوه من مسبح الجسر، المكان الذي حولوه إلى غرفة عمليات. ولأن الثورة بدأت بالتكافل والتضامن فهي مستمرة بهما، وبهما تستمر وتنتصر. هذا ما يدركه العديد من الثوار الذين قرروا أن يرفدوا الثورة بمالهم ووقتهم طمعاً ببناء وطن يؤمن لهم أبسط الحقوق.

لا يمكن حصر الجهات أو الأشخاص الذين يدعمون الثوار ويتبرعون لهم ولغيرهم من المحتاجين. فالثورة حمّست مواطنين كثيرين في لبنان وخارجه لتقديم الدعم سعياً للتغيير. والسؤال عن المتبرعين والداعمين للثورة يوصلك الى أشخاص مختلفين. وكلّ شخص يدلّ على آخر ما يؤكد أن التضامن أكبر مما يظهر للعيان. وقد نَجَمَ هذا التضامن عن وعي الثوار لواقع الحال لأننا نتجه الى مرحلة أكثر صعوبة تتطلب المزيد منه، خصوصاً وأن بوادر الأسوأ والأخطر تلوح في الأفق مبشرة بغلاء السلع الأساسية وبارتفاع نسبة البطالة.

 

للتضامن أهداف إنسانية وسياسية

 

ويحاول الثوار اليوم بقدراتهم المتواضعة استباق ما يرونه مقبلاً. فهم يشعرون بالمسؤولية، على العكس من السلطة التي كانت تدري بأننا سنصل إلى الانهيار الذي نعيشه اليوم، فعمل أفرادها على مراكمة ثرواتهم لسرقة الحد الأقصى مما يمكن سرقته من البلد قبيل انهياره بدل محاولة انقاذه وترك المواطنين يحملون كلفة فسادهم ونهبهم. في هذا الإطار، يكشف أدهم حسنية، من مجموعة “لحقي” في حديث لـ”نداء الوطن” أن “لحقي” شكلت مجموعة “الإنماء الإقتصادي” إنطلاقاً من تخوفها من الفوضى التي قد تحصل بعد فترة نتيجة النقص المتوقّع بالغذاء والأدوية. وحتى اليوم لم يتضح لدى “لحقي” التصّور النهائي لكيفية مواجهة المرحلة المقبلة، ولا يزال النقاش دائراً بين أفرادها. وتلحظ المجموعة أهمية التضامن على الصعيدين الإجتماعي والسياسي، “على الصعيد الإنساني متّفقون على أن الهدف هو المساعدة لتجنب عجز الناس عن إيجاد الطعام والدواء والمأوى. أما في الشق الأمني والسياسي فالهدف من هذا التضامن قطع الطريق على محاولات الجر إلى الفوضى. فالهدف الرئيس ألا نذهب إلى وضع أمني غير سليم وإلى فوضى تستفيد منها أحزاب السلطة سياسياً بعدما فقدت كل دفاعاتها وكي لا يشكل هذا الأمر مدخلاً لها لنشر أجنداتها في الصراع. لذلك ستعمل مجموعة “الإنماء الإقتصادي” على الأرض للبحث عن البدائل ووضع خطة عمل”.

 

عندما يتوقف التضامن  تموت الثورة

 

وكان نحو 100 محام في طليعة الحاضرين للدفاع عن الثوار، فتطوعوا للدفاع عن أي معتقل، وعمموا رقماً لمن يحتاج دعماً ودعوا المتظاهرين للاتصال به عند توقيف أي شخص. كما بادر محامون في أحيان كثيرة للتبرع من مالهم لجمع المبالغ اللازمة للإفراج عن معتقل أو موقوف. في هذا الإطار يقول المحامي وائل همام، من لجنة محامي الدفاع عن الموقوفين، لـ”نداء الوطن” إنهم أنشأوا مجموعة عبر تطبيق الواتساب لإبلاغ بعضهم عن أية حالة اعتقال فور المعرفة بها. كذلك قسموا المجموعة الكبيرة الى مجموعات أصغر وفق مكان سكن المحامين لإبلاغهم عن الموقوفين في مناطقهم. ووفق همام فقد واجه المحامون بعض المشاكل في أحيان عدة خصوصاً في الاعتقالات التي قامت بها مخابرات الجيش، حيث لم يعرفوا أماكن المعتقلين ما اضطرهم للبحث في المخافر والثكنات. ويرى همام أن التضامن أمام الثكنات عند اعتقال أي موقوف، يشكل نوعاً من الضغط للإسراع بالاجراءات اللازمة لإطلاق سراح الموقوف، ومع لحاق وسائل الاعلام بالمتظاهرين يتحول التوقيف سريعاً إلى قضية رأي عام. عند هذا التضامن يتوقف مصير البلد والثورة، فعندما يتوقف التضامن تموت الثورة ونعود الى حالة ما قبل 17 ت1 التي يرفضها أغلب المواطنين وإن عبروا بطرق مختلفة”.

 

مخيم الثورة في مرج بسري

 

نشطت الحملة الوطنية للحفاظ على مرج بسري قبل نحو سنتين ونصف من اندلاع الانتفاضة، وشكّلت الأخيرة فرصة للحملة للدخول إلى المرج ودفع آليات مجلس الإنماء والإعمار لمغادرته، ونصب الثوار خيمهم للدفاع عن المرج وحمايته، وفق ما أعلنوه. ودخل المرج في اليوم الأول نحو 1200 شخص ورفضوا الإنسحاب منه لا بل أعلنوا عن إقامة المخيم في المرج في 9 تشرين الثاني، “باعتبار مشروع السد أحد مكامن الفساد حيث تتم صفقة هي الأكبر إذ تبلغ قيمتها مليار ومئة مليون دولار”، وفق ما تقوله لـ”نداء الوطن” أماني بعيني إحدى الناشطات في الحملة.

 

وأضافت “أنشئ المخيم بدعم ومبادرات فردية، فأحضر ثوار المرج طعامهم وشرابهم وحاجياتهم معهم، واستمروا على هذه الحال نحو أسبوعين. بعدها ازدادت الحاجات في ظل الوضع الاقتصادي الصعب فأطلقنا نداء للمساعدة. من ثم وبالتعاون مع المفكرة القانونية وبعض الأشخاص، نظمنا ترويقة مجانية في المرج. فعلم مواطنون من كل لبنان بجهود الحملة لحماية المرج، وبدأوا عرض المساعدات والدعم من طعام وخيم وبطانيات….”. ووفق الناشطة فإن الحملة ترفض حتى الآن تلقي الدعم المالي، وتكتفي بطلب الدعم العيني واللوجستي، حتى من المغتربين الذين يتصلون عارضين هذا النوع من الدعم، فتطلب منهم الحملة استبداله بالدعم العيني. ورغم اكتفاء الحملة حالياً بالدعم العيني، غير أن موقفها من تلقي الدعم المالي غير نهائي. وقد تقبل الحملة الدعم المالي مع الوقت، في حال تمكنت من التوصّل إلى آلية واضحة تؤمن الشفافية اللازمة.

 

ولا يقتصر التضامن والدعم على الناحية المادية، ففي الأجواء تضامن معنوي يمنح الثوار المزيد من الطاقة، وما يكبّر القلب، بالنسبة لـ بعيني، هو الكلام الداعم الذي تسمعه من أشخاص يقولون لهم “لا يمكننا الصمود مثلكم في الظروف المناخية القاسية في المرج، كونوا عيننا وقلبنا في المرج وسندعمكم” كما تنقل عن سيدات أكبر سناً قولهن “ما لم نستطع فعله في الماضي تقومون به أنتم اليوم”. كذلك تشير بعيني إلى التضامن و”التشبيك” بين الثوار في جميع الساحات، وتبادل الخبرات في ما بينهم. في هذا الإطار تعمل الحملة الوطنية لحماية مرج بسري على المستوى العلمي للاستفادة من الخبرات. وستدعو الحملة خبراء بيئيين وجيولوجيين وهيدرولوجيين إلى المرج، ليجروا دراسة لطبيعة المنطقة، بعد رفض مجلس الانماء والاعمار إعادة دراسة الأثر البيئي لمشروع السد، وفق بعيني.

 

مطبخ للثوار

 

في موقف اللعازارية خيمة باسم “كلن يعني كلن”، الخيمة أصبحت مطبخاً يعدُّ الطعام للثائرين الذين يلازمون الساحات وينامون فيها. تهتم باولا ربيز بتأمين حاجيات المطبخ وتوزيع الطعام على الخيم. تروي ربيز لـ”نداء الوطن” كيف بدأ المطبخ العمل، “فالخيمة بدأت كمركز للإعلام، ويوم وقع هجوم الرينغ الأول أحرقت الخيمة وكانت تحتوي على بعض الطعام والمعدات التي تم التبرع بها للثوار. في اليوم التالي ولدى إعادة نصب الخيمة، أحضر الداعمون كمية أكبر من الطعام، فبدأنا توزيعها على المجموعات، وفي اليوم الثالث قررنا إحضار الطعام المطهي للثوار بدل النواشف”. تحضّر ربيز برنامج وجبات الأسبوع في الأسبوع الذي يسبقه، ويقدّم المطبخ وجبتي الغداء والعشاء لنحو 200 شخص من الطعام الذي تطهيه سيدات في منازلهن وترسله إلى المطبخ. تعرف ربيز هؤلاء السيدات، فهي ترفض استقبال الطعام من أيٍّ كان حرصاً على سلامة الثوار. وحتى صناديق الفاكهة تتأكد من مصدرها قبل توزيعها. وتشير ربيز إلى أنها ترفض المساعدات المالية بل تخبر المتبرعين بالحاجات التي تنقص المطبخ كي يقوموا هم بشرائها وإحضارها. ووفق ربيز فإن المجموعة التي تعمل اليوم على الأرض لتأمين التضامن هي نفسها تلك التي بدأت العمل لمساعدة ضحايا الحرائق التي اندلعت في الدامور قبيل الثورة. “فالحرائق وعّتنا وكانت جزءاً أساسياً من الثورة لأننا لم نحتمل عدم مساندة الدولة الدولة لنا أثناء الحرائق، حيث قمنا بالعمل بمفردنا والتجول بين المتاجر والضيع والمنازل لتأمين المساعدات وتفقد المنازل”.

 

الغائبون جسدياً يحضرون بالتبرعات

 

وفق نزيه خلف، أحد الذين نصادفهم دوماً في الساحات، فإن التضامن يبادر إليه أشخاص تمنعهم انشغالاتهم اليومية من المشاركة في التظاهرات. وعادة ما يحاول الراغبون بالدعم الاتصال بأشخاص كخلف للسؤال عن كيفية تقديم الدعم. لهذه الغاية نصبت في ساحة رياض الصلح خيمة باسم “من خيرك دفي غيرك” لتكون وجهة واضحة ومحددة لمن يرغب بالتبرع بالملابس والأدوية ومواد الاسعافات الأولية، “فمواد الاسعافات الأولية هي اكثر ما قد يحتاجه الثوار في الساحات”. مثل خلف، تؤكد الناشطة السياسية دارين دندشلي لـ”نداء الوطن” أنه لا يمكن الحديث عن جهات محددة تتبرع بل هناك أفراد كثر، كل بحسب قدرته “أصدقائي يتبرعون بالمال ويطلبون مني صرفه بأي شكل يخدم الثورة”. ويؤكد خلدون جابر أن في البقاع أشخاصاً يمدونهم بالفاكهة من السهل، وأشخاصاً آخرين يحضرون البطانيات من منازلهم، ويذكر أن أحد الأشخاص تبرّع للثوار بنحو 1000 معطف للوقاية من الشتاء. أما الشوادر التي تغطي الخيم فتجمع التبرعات لشرائها. كذلك جمع ناصبو الخيم التبرعات لتأمين الكهرباء والإنارة في الساحات عبر مولدات صغيرة.

 

البلطجية يحرمون فرح من سيارتها والثوار يعوّضون عليها

 

لم يسمح الثوار بأن تدفع فرح مرعي ثمن البلطجة التي استهدفتهم في 24 ت2 يوم نزل مناصرو أمل وحزب الله للاعتداء عليهم، وأحرقوا إحدى السيارات التي تبين أنها سيارة فرح. وكانت السيارة مركونة بالقرب من ساحة اللعازارية التي حاول أنصار الثنائي اقتحامها وإعادة إحراق خيمها. ولم يدفع هذا التصرف بالثائرة الى الخوف أو التراجع، فوقفت بالقرب من سيارتها المحروقة رافعة علامة النصر. وبعدما رفضت شركة التأمين تغطية الخسارة، ولم تتمكن فرح من شراء سيارة جديدة، بادر أصدقاؤها إلى مساندتها فوراً، وأطلقت صديقتها حملة تبرعات لتمكن فرح من شراء سيارة جديدة. فتمكنت الحملة خلال 48 ساعة من تأمين مبلغ 10 آلاف دولار لفرح كي تتمكن من شراء سيارة بدل المحروقة.

 

انتحار ناجي الفليطي دافع للمزيد من التضامن

 

أثّر خبر انتحار المواطن ناجي الفليطي في نفوس العديد من الثوّار، فشعروا بالعجز أمام مشهد الأب الذي قيل إنه علّق مشنقته بعد عجزه عن إعطاء ابنته مبلغ 1000 ليرة فقط، على الرغم من إدراكهم بأنها مسؤولية السلطة وحدها. وفي حين لم يهتز ضمير أي من المسؤولين، واستمرت السلطة في تجاهل المطالب المعيشية، تداعى بسرعة عدد من الثوار الى اجتماع في محاولة لإطلاق مبادرة جديدة تمكنهم من معرفة الحالات المشابهة ومساعدتها على نطاق أوسع.

 

سينتيا سليمان إحدى الذين بادروا للتحرك بعد انتحار الفليطي، وهي التي بادرت سابقاً مع مجموعة من المتطوعين للتضامن مع أهالي الدامور. تقول سليمان لـ”نداء الوطن” إنهم كمجموعة أفراد متفقون على المبادئ نفسها، يحاولون إطلاق مبادرة في كل لبنان لتحديد نقاط ثابتة في مختلف المناطق، وتعميم موقعها لمن يحتاج إلى دواء وطعام أو إلى الدخول إلى المستشفى، في محاولة للوصول إلى أكبر عدد من المحتاجين. “المبادرات ليست جديدة، لكن تراجع الحال الاقتصادية بسرعة، والمظاهر التي برزت في محيطنا الضيق وانتحار الفليطي شكلت ضربة لنا. شعرنا بأنه يمكننا الوصول للأشخاص القريبين منا لكن هناك أشخاصاً نعجز عن الوصول إليهم. هو واجب الدولة لكن ليس لدينا حل سوى العمل في ظل اهمالها دورها. لذلك قررنا البدء بهذه المبادرة ووزعنا استبيانات لتعبئتها، حتى يرسل من يرغب بالمساعدة اسمه ورقم هاتفه وعنوان سكنه، ليطلعنا على الحالات التي تحتاج إلى المساعدة في منطقته”، تقول سليمان.

 

ويعمل هؤلاء الأشخاص على جمع التبرعات من خلال تحضير لائحة بأسماء مؤسسات وجمعيات وأشخاص يمكنهم التبرع، بالإضافة إلى تبرعهم هم أحياناً من مالهم. أما الأدوية فيتم جمعها من صيادلة يعرفونهم، لكن هؤلاء لا يمنحونها بالمجان، وفق سليمان، إنما يبيعونها بسعر الجملة ويتحملون الخسارة الناجمة عن كلفة الضريبة على المبيع. وتشير سليمان الى أنهم يؤمنون بعض الأدوية بالمجان من أحد الكهنة.

 

أما المحتاجون فتصلهم المساعدات من أدوية وغيرها بعد أن تعلم المجموعة بحاجتهم، أو بعد أن تصلها الوصفات الطبية التي تثبت الحاجة للدواء. وجراء ارتفاع عدد العاطلين عن العمل في الفترة الأخيرة، بات الكثير من الأشخاص يناشدون المساعدة في إيجاد وظيفة فقط. هنا تشير سليمان الى أنهم وبعد أن رفضت حالتان تلقي أي مساعدة مادية، واكتفتا بطلب المساعدة في تأمين فرصة عمل، وبعد عجزهم عن المساعدة في هذا الطلب قرروا المساعدة في تأمين الدواء والحليب والحفاضات للأطفال.