Site icon IMLebanon

أبعد من الحراك.. ولبنان

 

لا يمكن النظر إلى ما يجري في لبنان بمعزل عن مشهد إقليمي يمتدّ من طهران إلى بيروت. تلفت الى ذلك، قراءة سياسية للمشهد اللبناني، يذهب صاحبها إلى اعتبار أنّ حصر ما يجري في لبنان ضمن نطاقه الجغرافي، هو نوع من السذاجة وقصر النظر. ذلك أنّ البعد الإقليمي للأزمة اللبنانية هو بديهية لا يمكن انكارها، تماماً كما لا يمكن القفز فوق حقيقة، يسعى البعض لتسفيهها بالقول، إنّ ما يجري منذ 50 يوماً منزّهٌ عن التدخل الخارجي، في بلد مكشوف، منذ نشأته، على كل السياسات الاقليمية والدولية، وساحة مفتوحة لكل أجهزة الاستخبارات في العالم.

في المقابل، كما تؤشر القراءة السياسية، من الخطأ، بل الخطيئة والخبث أن تذهب أي مقاربة إلى «شيطنة» الحراك الشعبي الذي فجّرته السياسات الفاجرة لسلطة اعتادت أن تؤمّن استمراريتها بالمواءمة بين مصالحها، كطبقة سياسية حاكمة، وبين مصالح قطاع مصرفي جشع، على حساب لقمة عيش المواطن وأمانه الاقتصادي – الاجتماعي.

 

بهذا المعنى، يمكن النظر إلى ما يجري في لبنان منذ 50 يوماً – وبالتأكيد قبل ذلك بكثير – من حقيقة أنّه التجسيد العملي لتفجّر كل التناقضات الداخلية والخارجية على حد سواء.

 

داخلياً، هو تفجّر لتناقضات على أكثر من مستوى: ثنائية السلطة في مواجهة الشعب (وبالعكس)، صراع سياسي متعدّد الأقطاب بين «ملوك الطوائف»، ولعب بنيران الاقتصاد الحارقة بين السلطة الطوائفية الحاكمية، ممثلة بمصرف لبنان والقطاع المصرفي الخاص.

 

أما خارجياً، فهو صراع محتدم على خطوط متشعبة، تقف فيه الولايات المتحدة الاميركية وحلفاؤها في مواجهة إيران، وروسيا والصين، ومعها إسرائيل، التي لم يجد رئيس وزرائها المأزوم بنيامين نتنياهو حرجاً في أن يجاهر بأنّ «ما يجري في لبنان فرصة نعمل مع الولايات المتحدة على استغلالها».

 

من هنا، بحسب صاحب هذه القراءة، ليست صدفة أن يتزامن تفجّر الغضب الشعبي في لبنان مع تفجّر الغضب الشعبي في أكثر من دولة، سواء في الاقليم (العراق، ايران)، أو في العالم (هونغ كونغ، تشيلي، بوليفيا).

 

وليست صدفة أيضاً أنّ هذا المشهد المتنقل اليوم من أقصى الشرق الصيني إلى اقصى الغرب الأميركي اللاتيني، مروراً بالشرق الأوسط، يتزامن مع ما تبقى من أشهر قليلة على الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي يسعى دونالد ترامب فيها إلى ولاية ثانية.

 

هذا التزامن، على ما يلاحظ صاحب القراءة، يعيد إلى الأذهان مباشرة ما تعهّد به ترامب في حملته الانتخابية الأولى: «سنجعل أميركا أقوى، ولكننا لن نستهلك موازنتنا ولن نضحّي بدم جندي من جنودنا». وضمن هذا الإطار، يمكن وضع الحراكات الشعبية المتنقلة في أصقاع العالم، لكي يستطيع دونالد ترامب أن يواجه خصومه الداخليين بحقيقة أنّ سياسته الخارجية نجحت، ويدحض، في الوقت نفسه، كل اتهامات الفشل التي لاحقته في الملفات الخارجية الأكثر حساسية: إيران، «حزب الله»، اميركا اللاتينية… وربما الصين وروسيا.

 

يفتح ذلك الباب أمام نقاش حول الأهداف التي تتوخاها الولايات المتحدة من حراك شعبي في لبنان، والتي جعلت الأميركيين وحلفاءهم سواء في الداخل أو الإقليم يسارعون إلى ركوب موجة الغضب اللبناني، بحسب ما بات معلوماً، لِحَرف الانتفاضة عن أهدافها:

 

أولاً، بإعادة ترتيب أولويات مطالبها من الشق الاقتصادي- الاجتماعي إلى الشق السياسي.

 

ثانياً، من خلال طرح شعارات سياسية من قبيل سلاح «حزب الله».

 

ثالثاً، من خلال تعويم الفوضى المالية – الاقتصادية التي تجعل اللبنانيين اليوم يتسوّلون أموالهم عند أبواب المصارف.

 

تبعاً لذلك، لم يعد خافياً أنّ مطالب الحراك الشعبي، أو بالأصح راكبيه الذين بدأوا يستأثرون بالمساحة الاكبر من قراره، قد باتت سياسية بامتياز، بعدما كانت اقتصادية – اجتماعية، وثمة الكثير من المظاهر التي تؤكّد ذلك، من طبيعة التحرّكات التي تشهدها الشوارع، أبتداءً من عملية حرق أسماء المرشحين لرئاسة الحكومة الجديدة ، وصولاً إلى المواقف المعلنة التي تبدّد معها مشهد «العرس الوطني» العابر للطوائف والمناطق، إلى خطاب سياسي – مذهبي – طائفي، عبّر عن نفسه في «موقعة الرينغ» وأيضاً ما بين الشياح وعين الرمانة، وآخر فصوله بيان «نادي رؤساء الحكومات».

 

يقول صاحب القراءة، إنّه في بلد مثل لبنان، حيث لا خط فاصلاً بين الداخل والخارج، يمكن توقّع، أو حتى يمكن الشك في أنّ الاشتباك السياسي الداخلي يتماهى بدرجة عالية مع الاشتباك الخارجي، الذي يجعل القرار الوطني رهينة توجّهات خارجية، حتى في شقّها الاقتصادي، على النحو الذي عبّر عنه أحد مسؤولي وزارة الخارجية الاميركية حين قال: «إن أيّة دولة في العالم لن تقدّم فلساً واحداً للبنان ما لم يستجب المسؤولون مطالب الشارع». والسؤال هنا: أيّ شارع؟

 

وعلى ما تلاحظ القراءة السياسية، لا يمكن تجاهل أنّ بعضاً من اشكال الحراك في الشارع بات يصوّب بشكل مباشر على «حزب الله» تحديداً، أكثر مما يصوّب على الفساد»، وهو ما تبدّى في مظاهر كثيرة، بدءاً من محاولة إثارة حساسيات الشياح – عين الرمانة أو الاشرفية – الخندق الغميق، وصولاً إلى الإصرار الواضح على اقفال الطرق، ولا سيما في النقاط الأكثر حساسية، عند المداخل الجنوبية لبيروت، على النحو الذي يمكن أن يثير تساؤلات استراتيجية تمتد من بيروت إلى طهران، وبينهما بغداد، وهذا ليس أمراً عابراً أو تفصيلياً بالنسبة إلى الحزب وجمهوره، ولا الى الولايات المتحدة نفسها.

 

كما لا يختلف اثنان على أنّ الفوضى المالية التي يشهدها لبنان حالياً هي امتداد لإجراءات اميركية بدأت منذ سنوات، وبلغت ذروتها خلال الأشهر القليلة الماضية، بعدما توالت قرارات «أوفاك» بوتيرة سريعة، لتطال أموال البيئة الحاضنة للمقاومة.

 

هذا بالضبط ما جعل الكثير من العالمين بطبيعة الاستراتيجيات الاميركية يقولون إنّ تلك الاجراءات ليس الهدف منها محاصرة «حزب الله» مالياً، بشكل مباشر، خصوصاً أنّ تعاملاته المالية تبقى خارج نطاق المنظومة المصرفية الدولية، وانما في اضعاف جبهته الداخلية، من بوابة إحداث الفوضى السياسية والاقتصادية – الاجتماعية على النحو الذي بدأ يشهده لبنان قبل 50 يوماً، وما يؤكّد ذلك إحجام الخليجيين، عن اتخاذ خطوات سابقة، ولو كانت مجرّد مسكنات، عبر ضخ هبات محدودة لإنقاذ الوضع، كما لو أنّ أمر عمليات قد صدر لهم من مكان ما!.

 

بطبيعة الحال، كما تخلص القراءة السياسية، لا يمكن تحميل الحراك الشعبي أكثر مما يحتمل. لقد انتفض الناس من وجعهم، وهذا ما يقرّ به الجميع، حتى أولئك الذين تسببوا بمأساة الشعب منذ عقود. لذلك، فمن العبث أن يقتنع الشارع بأن يعض على جرحه، ويستسلم لقدر مفروض عليه في إطار لعبة الأمم. لذا، فالمسؤولية تقع على عاتق شركاء الأمس واليوم في السلطة الحاكمة… فإما التحرّك سريعاً لاحتواء ما يمكن احتواؤه من أزمة الداخل، وإما انتظار الاعصار الذي قد يهبّ، وقد لا يسلم منه أحد.