IMLebanon

السياسة أمام الحراك… والحكومة مقابل الغذاء!

 

 

التخبط الذي تعانيه السلطة في مواجهة التحديات المالية والاقتصادية والنقدية، يعكس في جوهره عجزاً عن مواجهة الأزمات المتلاحقة على هذا الصعيد، فأن يصل الحال برئيس حكومة لبنان المستقيل سعد الحريري توجيه رسائل إلى حكومات دول غربية وعربية، لاستجداء العون الغذائي يكشف المدى الذي وصلت إليه السلطة في لبنان من ضعف ووهن بل وفشل في تحمل مسؤولية الحكم.

 

لم يعترض أولئك الذين طالما خرجوا على اللبنانيين في توجيه الاتهامات إلى هذا الخارج بالتآمر على لبنان، بالاحتجاج على رسائل رئيس الحكومة، فالكرامة التي يتغنون بها مع سيل التوصيف للانتصارات الالهية التي حققوها، لم تستنفر فيهم الكرامة وهم يراقبون هذا الوقوف اللبناني على اعتاب الدول مستجدياً أمناً غذائياً.

 

هذه السلطة التي تعيد انتاج نفسها منذ ما بعد اتفاق الطائف، على قواعد المحاصصة نفسها واضعاف الدولة، وعلى بناء المحميات المذهبية والطائفية والألهية، تشريعاً للنهب والفساد، تسعى اليوم إلى تجديد هذه المعادلة، من خلال الاستمرار في النهج نفسه في تشكيل الحكومة المزمعة: المحميات الوزارية، التناتش على الحصص، عقلية الاستئثار، إدارة الظهر للشعب، شيطنة كل ما يخالف هذا السلوك والمنطق الذي أوصل لبنان إلى هذا الدرك.

 

من هنا كان الحراك الشعبي الذي انطلق في 17تشرين الأول، إيذاناً بأن الشعب قد سئم وعود السلطة الكاذبة، وأعلن بغضب أنه لم يعد قادراً على تحمل نهج تهميش حقوقه، وازدراء مطالبه المحقة، فاندفع المواطنون هذه المرة متسلحين بلبنانيتهم، نابذين كل ما يفرقهم من انتماءات ضيقة طالما كانت وسيلة السلطة لنهبهم وتعميم الفساد في ادارة مصالح الدولة.

 

خروج المواطنين من كل المناطق بغضب إلى الشارع والتجمع في الساحات، افضى إلى نتيجة بارزة مفادها أن سيل المطالب المعيشية ومكافحة الفساد المالي، وتوفير الحدّ الأدنى من حقوق المواطن على السلطة، هو ما جعل البعد المطلبي يهيمن على الحراك الشعبي المستمر، وهو ما جعل السلطة متمسكة بنهجها وسلوكها، وهذه المرة بتقديم المزيد من الوعود الاصلاحية، ولكن من دون أن ترسل أي رسالة جدية للشعب، توحي من خلالها أنها غيّرت في سلوكها ونهجها، بل المزيد من الشيء نفسه، الذي يقوم على ترسيخ قواعد السلطة نفسها، بكل ما تتضمنه من محاصصة ومحميات حزبية وطائفية.

 

هذا ما يجعل الانتقال في خطاب الحراك وسلوكه من الحالة المطلبية المعيشية والاقتصادية، إلى مرحلة التغيير السياسي أمراً لا مفر منه في برنامج الحراك، أي الانتقال إلى مرحلة الانتفاضة على قواعد اللعبة السياسية القائمة في السلطة. وهذا ما يجعل من السياسة أمراً لا مفر منه في برنامج الحراك الشعبي اليوم، فادارة الدولة ونظام مصالح اللبنانيين، على اسس المحاصصة الذي يغطي الفساد ويبرره، ليس نتيجة وجود مسؤولين مفسدين فحسب، بل نتيجة قواعد تقوم عليها السلطة وتنتج نظام مصالح معادياً للمواطن والدولة، ومعززاً للطفيليات التي تقوى وتتمدد بضعف الدولة واضعافها.

 

تغيير قواعد السلطة

 

حان وقت السياسة، لأنها الكفيلة بتحصين الحراك ومطالبه المحقة والمشروعة، والانتقال به نحو تحقيق المطالب فعلياً، فالأزمة التي يعاني منها لبنان، تتمثل في ترسيخ الزبائنية بديلاً من الحقوق، والرعية بديلاً من المواطنية، والمحاصصة بديلاً من الدستور والقانون. والطائفة بديلاً من الشعب. وصولاً الى الزعيم او الحزب بديلاً من الرعية والشعب.

 

الاشكالية أو التحدي الذي يواجه الحراك ومجموعاته المتنوعة والموحدة في آن، هو تغيير قواعد السلطة، فالأخلاق لا تكفي وحدها، والنوايا الحسنة لم تعد مجدية، والرهان على ان اطراف السلطة يمكن ان يغيروا من سلوكهم هو رهان على أنهم يمكن ان يقضوا على نفوذهم غير المشروع وعلى وسائل تعزيزه.

 

التغيير الذي ينشده المواطنون بالضرورة هو تغيير يعيد الاعتبار للقوانين وللدولة، ويعيد تعريف السلطة باعتبارها تمثيلاً لارادة المواطنين، ونتاج عملية ديموقراطية، لا يمكن اختزالها بانتخابات تحكمها آليات تعيد انتاج السلطة نفسها.

 

نجح الشعب في فرض حضوره اليوم من خلال الانجازات التي حققها الحراك بفرض وجوده كطرف لا يمكن القفز فوقه في اي معالجة جدية للأزمة التي تخنق لبنان، وهذا ما يفرض في المقابل ان تضع مجموعات الحراك امامها مسؤولية الانتقال الى عمق الأزمة في سبيل انتاج حلول لا يمكن الانقلاب عليها وتقويضها، وهذا ما يجعل من ترجمة الاحتجاجات الشعبية المستمرة على امتداد الوطن، مسؤولية وطنية على مجموعات الحراك، من خلال خلق اوسع عملية تفاعل في ما بينها ومن قلب الشارع ونبضه، لبلورة المهمات التي تنطلق من أن الشعب بات معنياً بكسر معادلة السلطة، بما هي معادلة منتجة للأزمات وقاصرة عن ايجاد الحلول، وهذا ما يرتب بلورة برنامج يبدأ من أن الديموقراطية لا يمكن أن تبقى في سجن “التوافق الوطني” المخادع والخبيث في الحكومات، ولا في سلطة حكومية هي صورة مصغرة لمجلس النواب، ذلك ان الديموقراطية في جانب من جوانبها الغنية، لا يمكن ان تستقيم وتحقق مبتغى الشعب في ظل غياب معارضة في مجلس النواب. وما يمكن ان نضيفه في هذا السياق، أن الانتخابات النيابية لا تعني ان دور الشعب قد انتهى كسلطة رقابة وكمصدر لكل السلطات الدستورية، وما كشفته الوقائع الثورية في هذا الحراك الشعبي، ان القطيعة والمسافة الشاسعة بين الشعب والسلطة كبيرة جداً، وهذا ما يجعل من ردم هذه الهوة مسؤولية امام الحراك، الذي يجب ان يرسخ في الحياة السياسية والوطنية قانونياً وسياسياً دور المجتمع والشعب باعتباره الرقيب الأول وصاحب الحق في التصحيح والتغيير وفي حماية منجزاته وتنوعه ووحدته، وفي انتاج السلطة وتجديدها وخلعها اذا ما اراد.